الثلاثاء، 30 ديسمبر 2014

رحلة إلى الربع الخالي (ج۱٥ والأخير)

المَرّيّ يكشف أسرار قصّ الأثر


كتب و صوّر: محمد اليوسفي

كتبت في الجزء السابق من هذه الرحلة أنه بصرف النظر عن الاختلافات حول ما إذا كانت قدرة (المرّي) على قص الأثر تأتي من تلقي علم له أساسياته ومنهجه أو إلهام أو مهارة أو موهبة أو تخمين وحدس يعتمد على التعايش والتعامل مع البيئة وطبيعة البشر والأرض والحيوان والنبات؛ وبخاصة في منطقة كثبان رملية كالربع الخالي، ومن ثم الربط فيما بين القرائن التي تفضي إلى استنتاجات موصلة إلى الحقائق، بصرف النظر عن ذلك، فإن قبيلة آل مرة تعد واحدة من أشهر القبائل التي عرف عن بعض أبنائها قدرتهم على قص الأثر  وتتبعه إلى درجة أن الناس ذهبوا في الاصطلاح الشعبي إلى تسمية قصاص الأثر الماهر بـ(المَرّي) حتى لو كان من قبيلة أخرى. 

  • سألت عبدالهادي العرق المري.. صاحب رسالة ماجستير عن فئة قصاصي الأثر.. هناك زعم غريب بين "عامة الناس" يفسرون فيه براعة أبناء آل مرة في قص الأثر، فما هو؟
أجاب: = أظنك تقصد ما يردده بعض أبناء البادية قديما، حيث يقولون إن أم أو جدة آل مرة (من الجن) في تفسيرهم لبراعة كثير من أبناء القبيلة في قص الأثر، لكن هذا الزعم بالتأكيد ينم عن الجهل في التفسير الصحيح وهو أن معظم أبناء آل مرة كانوا يسكنون في الربع الخالي أو أراض رملية مشابهة تتميز بأن آثار أي كائن يطأ عليها ستنطبع بشكل واضح حتى لو كان لأصغر الحشرات، ولهذا حتمت ظروف التعايش مع البيئة أن يكونوا مميزين في معرفة الأثر وتتبعه. 

  • وهل تعني أن من لم يسكن في المناطق الرملية لن يستطيع معرفة الأثر وتتبعه؟
= إلى حد ما، لكن هناك خصوصية في هذا الجانب بالنسبة لآل مرة، فأنا مثلا من مواليد مدينة الرياض وعشت فيها إلا أنني قضيت الإجازات الدراسية وما تيسر من الوقت في المناطق البرية. كما أن معرفة الأثر وقصه من المهارات المكتسبة عند جيل الآباء، وربما أدى انبهار الناس من خارج القبيلة بهذه المهارة إلى أن يجعل الأجيال المتعاقبة من آل مرة تتشرب المهارة كميزة يحافظون عليها ويتعلمون في ميدانها وفنها. 

  • هل تقصد أنكم تسعون إلى اكتساب المهارة في قص الأثر بصورة متعمدة؟
= لا.. في إجابتي السابقة أحاول تقديم تفسير للظاهرة لكن لو طبقت الأمر على نفسي فلا أعرف بالتحديد متى نشأ معي الاهتمام بقص الأثر، فمنذ الصغر وعيت على الاهتمام بهذا الجانب إلى أن بلغ أوج ذلك بدراسة الماجستير في هذا الموضوع قبل عقدين من الزمن تقريبا. 

  • بالقياس على إجابتك حول تأثير طبيعة البيئة الرملية فسوف أفترض أن أبناء القبائل التي سكنت في منطقتي الدهناء والنفود الكبير لديهم المهارة في قص الأثر، لكن لماذا أخذت قبيلة آل مرة الشهرة؟
= صحيح هناك أفراد من قبيلة شمر وعنزة وغيرهم من سكان القرى عرفوا بالمهارة العالية في قص الأثر، لكن الشهرة كانت وما زالت لآل مرة حتى أن قصاص الأثر يطلق عليه حالياً (المَرّيّ)، وإن كان لا ينتسب لآل مرة، لأن (المري) عند عامة الناس تسمية لقصاص الأثر على الإطلاق، وهذا يعود إلى أن السواد الأعظم من قصاصي الأثر هم من آل مرة خصوصا أن 90% تقريبا منهم كانوا يقطنون في الربع الخالي وهذه منطقة وميدان مختلف في سعته عن الدهناء والنفود الكبير. 

  • لننتقل إلى قصاص الأثر نفسه، ما المهارات التي تجعل شخصا بعينه لديه معرفه بقص الأثر؟ هل هي قوة ملاحظة أم ذاكرة متقدة أم حدة بصر أم ماذا؟
= كل ما ذكرته في سؤالك مطلوب، إضافة إلى الذكاء وصفاء الذهن والقدرة على التركيز وهذه هبة من الله، وأضيف إلى ذلك شيئاً مهماً وهو الخوف من الله دائما والخشية منه سبحانه، خاصة إذا كان مطلوبا منه التعامل مع آثار في مسرح الجريمة. 

  • بالنسبة لك، إذا كان الأثر الذي تتبعه لرجل حافي القدمين وتداخل مع آثار حفاة بنفس الحجم، كيف لك أن تستمر في التتبع؟
= قبل أن أجيبك سأروي قصة قديمة عن رجل من آل مرة فقد ناقته فتتبع آثارها إلى أن وصل مورد ماء، ثم تبين له أن المورد يخرج منه أكثر من مساق: والمساق هو الدرب الذي تمشي عليه الإبل إذا وردت وصدرت من الماء، وكان يحتاج إلى تتبع هذه (المساقات) ليعثر على الأثر ويواصل تتبعه، وكان على مورد الماء مري آخر تبرع في مساعدته رغم أنه لا يعرف الناقة لكنه سأله (الناقة من هي عليه؟) ويقصد السؤال عن الفحل الذي ضرّب أمها (أب الناقة)، فسمى صاحب الناقة الفحل وهو معروف ومشهور، ثم تفرّق الاثنان، وبعد فترة قصيرة من البحث صوت المتبرع لصاحب الناقة ليشير على أثر الناقة الذي عثر عليه رغم أنه لم يرَ الناقة من قبل، فواصل صاحب الناقة تتبع الأثر.
طبعا سوف يعتقد البعض أن في ذلك مبالغة فكيف عرف الثاني الأثر وهو لا يعرف الناقة، وربما يأتي آخر فيقول كيف يعرف قصاص الأثر أصلا أثر ناقته والخفاف متشابهة، فأقول إن قصاص الأثر البارع تصل معرفته إلى التمييز بين أثر خفاف الإبل وحجمها وشكل استدارتها، أما الثاني الذي لا يعرف الناقة فقد استعان بمعرفته وخلفيته عن إنتاج الفحل من الإبل التي تكون سلالة متشابهة.
وعليه فلا أبالغ إذا قلت إن تتبع الحالة التي ذكرتها في سؤالك عن الحفاة أسهل علي من التفريق بين وجوه البشر، لأن الأرجل بشكل عام- وهذا من أسرار قصاصي الأثر- مختلفة فيما بين ثلاثة حالات لوصف أقدام البشر، فهنالك (الأكرف: وهذا وصف للأقدام التي تكون مائلة إلى الداخل، فالقدم اليمني تكون مائلة قليلا جهة اليسار والقدم اليسرى تكون مائلة جهة اليمين)، وهناك (الأزرح: والمقصود عندما تكون القدمان متباعدتان)، وهناك ( الأمد: أي الأقدام مستقيمة)،وهناك ثقل الوزن وعلاقته بعمق الأثر الذي ينطبع على الأرض، وهناك أصحاب العاهات حتى لو كانت محدودة مثل انحراف أصبع عن بقية الأصابع، وهناك أسرار كثيرة ربما نحتاج إلى صفحات كي نوضحها بالتفصيل. 

  • وماذا لو كانت الآثار ليست لحفاة بل لمن يلبسون أحذية متشابهة في شكل الأثر والمقاس؟
= هنا يمكن الاستدلال بشكل الأقدام التي وضحتها في إجابتي على السؤال السابق، إضافة إلى قوة الأثر وعلاقته بالوزن، وهناك قرائن أخرى تتعلق بالخطوة المتزنة التي يختلف أثرها عن "الخطوة المرتبكة" التي أستنتج منها الحالة النفسية للشخص وما إذا كان متعاطياً مخدراً أو مسكراً، وهكذا. 

  • هذا على افتراض أن يكون الأثر على أرض رملية، وماذا لو دخل في أرض حصوية أو صخرية؟
= هنا أعتمد على أشياء أخرى مثل تخلخل الحصى والصخور عندما تطأ الأقدام الأرض، وهيئة النباتات والأغصان الخفيفة التي تتكسر أو تميل في حال داستها الأقدام، ثم يمكن عمل الاستقطاع  وهو الدوران على حواف الأرض الحصوية في اتصالها بالأرض الرملية من أجل معرفة المكان الذي خرج منه صاحب الأثر. 

  • كيف ترد على من لا يصدّق أن هناك أشخاصا لديهم القدرة على قص الأثر وتتبعه ومن ثم تحديد صاحبه، ويعتبر ذلك من الخرافات؟
= أولا هذا علم من العلوم التي برع فيها العرب منذ الجاهلية، كما أن الشواهد دلت على أنه تم الاستعانة بقصاصي الأثر منذ صدر الإسلام وحتى وقتنا الحاضر، ثم لو رغبت لقمت بإجراء تجربة في الميدان بالشكل الذي تطلبه لتطلع عليها شخصياً وتحكم بنفسك. 

  • لقد شهدت التجربة واقتنعت تماما بأن القصاص يستطيع تتبع الأثر وتحديد شخصية صاحبه، لكن ما تأثير العوامل الجوية كالمطر والرياح في تتبعك للأثر؟
= بكل صراحة أقول إذا اشتدت الرياح أو هطلت الأمطار على الأرض واختفت المعالم الرئيسية للأثر فإن القصاص لا يستطيع الاستدلال عليه، وسؤالك يدفعني إلى توضيح أن القصاص يستطيع تحديد توقيت الأثر في مثل هذه الحالات، إضافة إلى انه يستفيد من آثار الحشرات والزواحف الصغيرة، فمثلا إذا كان أثر الشخص فوقه أثر حشرة أو أحد الزواحف فيستدل على أن الأثر فات عليه يوم، وإذا كان فوق أثر الحشرة أثر آخر لحشرة فيحتمل أن يكون الأثر منذ يومين أو أكثر، وهكذا. 

  • بشأن أثر الكائنات، أقول إن هاوي الصيد خاصة الصّقّار لديه المقدرة على تتبع أثر طيور الحبارى والكروان، ومثله هاوي صيد الأرانب يستطيع تتبع أثرها بل ومعرفة حالاتها من كونها ترعى أو تسعى إلى جحرها أو هل هي ذكر أم أنثى، بينما تجد مثل هؤلاء لا يمتلكون المهارة في معرفة أو تتبع اثر البشر، هل يعني ذلك أن الشخص إذا ركّز اهتمامه بأثر كائن معين يستطيع معرفة أسراره؟
= هذا صحيح، لكن لا بد أن تتوافر في الصياد أو الشخص الخصائص التي ذكرناها في معرض الإجابة على سؤال سابق، ولهذا تجد حتى الصيادين يتباينون في المهارة شأنهم في ذلك شأن قصاصي الأثر. 

  • ماذا عن السيارات، هل تستطيع تتبع الأثر الذي ترسمه الإطارات على الأرض؟
= نعم، إذا كانت في أرض رملية أو ما يشبهها، لكن فيما يتعلق بالسيارات لا يستطيع قصاص الأثر سوى الاستدلال على أثر الإطارين الخلفيين لأنهما يمحوان أثر إطاري المقدمة، ومع هذا يمكن الاستدلال على شكل إطاري المقدمة في حالة انحراف السيارة أو دورانها، وأحياناً توجد عيوب في الإطار مثل قطع صغير يستطيع القصاص من خلاله تحديد السيارة. 

  • من خلال دراستك وحصولك على درجة الماجستير في موضوع قص الأثر، هل يمكن عقد دورات لتدريب الأفراد على قص الأثر؟
= نعم، وكنت عملت هذا الشيء سابقا، لكن أعيد التأكيد على ضرورة توافر الخصائص التي تميز أشخاصا عن غيرهم مثل الذكاء وصفاء الذهن وقوة الملاحظة والذاكرة مع ضرورة وجود الرغبة في فهم الجانب النظري والعملي في موضوع قص الأثر. 

  • في ميدان قص الأثر ما أغرب حالة تعاملت معها؟ 
= من أغرب الحالات أو أطرفها أن شخصاً من جنسية عربية زعم أن مجهولا قام بالسطو على منزله وكسر شنطة حديدية وسرق كل ما تحتويه من نقود، وهي عبارة عن أمانات أودعها أصحاب له من نفس الجنسية، ولما حضرت إلى المكان تبين لي أن الشنطة كسرت عمداً وبُعثرت محتوياتها وعرفت أن الجاني لم يترك أثر بصمة أو شيء آخر يدل عليه، ومن حسن الحظ، أو سوء حظ هذا الشخص أن هناك بقايا غبار حول الشنطة وتبين لي أثر الأقدام وما يشير إلى أنها للشخص الذي كسر القفل، وتبين لي أيضاً أن الأثر لنفس الشخص الذي بلّغ عن الأمانات المسروقة، ولهذا أخبرت الشرطة وبعد التحقيق اعترف، وكان يريد من هذه الحادثة تثبيت سرقة المال ليستحوذ عليه، فانطبق عليه المثل (على نفسها جنت براقش).

انتهت أجزاء رحلة إلى الربع الخالي.. وهذا الجزء الخامس عشر.. وفيما يلي الأجزاء السابقة
اضغط على العنوان لينقلك مباشرة للجزء المطلوب














رحلة إلى الربع الخالي (ج۱٤)

المَرّيّة


كتب وصوّر: محمد اليوسفي


هذه آخر ليلة في رحلة إلى الربع الخالي التي استغرقت مدة اسبوعين تقريبا. في طريق العودة إلى الرياض قبل الوصول إلى حرض، وتحديدا في مركز الطويلة التي تعد مورداً قديماً يتزود منه أبناء البادية بالمياه وما زالت، ويسكنها حاليا مجموعة من أبناء قبيلة آل مرة. قوبلنا فيها بحفاوة واستضافة كريمة من العميد المتقاعد ناصر بن صالح العرق المري.

المفاجأة السّارة بالنسبة لي أن المجلس ضم شقيقه عبدالهادي العرق الذي سمعت عنه كواحد من البارعين في قص الأثر، إضافة إلى أنه نال درجة الماجستير من جامعة نايف للعلوم الأمنية, وكانت دراسته عن فئة قصاصي الأثر. والاثنان هما أبناء لصالح العرق المري الذي يعد أول شخص التحق بالعمل في الدولة بصفة (قصاص أثر) إبان عهد الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه -. وصالح العرق هو المقصود في بيتين من الشعر الشعبي القديم (لم أعثر على اسم صاحبهما)، حيث قال الشاعر يستحث راحلته على سرعة المسير مثلما تسرع السيارة التي تقل قصاصي الأثر (المَرّيّه) عندما يندفعون لتولي مهمة تتبع أثر سارق، فقال:

يا فاطري روحي مرواح سيارة
مرواح فرت مصندق فيه مرّيّه 
تبغي تدور سروق ضاعت اخباره 
يقصه العرق ما قصه عليميه 


قبل أن أقدم خلاصة حوار مطول أجريته مع عبدالهادي العرق، لعل من المهم تقديم لمحة عن اهتمام العرب ومنذ الجاهلية بما كان يعرف بالقيافة والعيافة والرّيافة والفراسة، ويعد كتاب السياسة في علم الفراسة لأبي عبد الله شمس الدين الانصاري المتوفي خلال النصف الأول من القرن الثامن الهجري أشهر المصادر في التراث العربي التي أصلت لما وُصف بعلم الفراسة، وتعني كلمة الفراسة النظر والتثبت والتأمل في الشيء والتبصر به، وإذا قيل تفرّس فلان في الشيء أي توسمه. أما من نظر إلى الفراسة كعلم فقد عرّفه بأنه الاستدلال على أخلاق الناس الباطنة من النظر إلى أقوالهم وحركاتهم وأحوالهم الظاهرة مثل لون البشرة وهيئات الأجسام وأشكال الأعضاء. والفراسة أنواع فهناك ما يتعلق بمعرفة الإنسان أو الحيوان أو النبات وغير ذلك. ويتفرع عن الفراسة ما يسمى بالقيافة وهي إما قيافة البشر أو قيافة الأثر، فالأولى هي الاستدلال على معرفة أحوال الإنسان، أما الأخرى فهي تتبع آثار الأقدام والحوافر في الطريق, وهي أيضا مرادف إلى حد ما بالعيافة، لكن العيافة ارتبطت عند العرب قديما بالتكهن والتطير وخرافات أخرى، وهناك أيضا ما يسمى بالرّيافة التي تختص بما يقال إنها قدرة الإنسان على الاستدلال على مصدر الماء تحت الأرض.

وبصرف النظر عن الاختلافات حول ما إذا كانت قيافة الشخص(قدرته على قص الأثر) تأتي من تلقي علم له أساسياته ومنهجه أو إلهام أو مهارة أو موهبة أو تخمين وحدس يعتمد على التعايش والتعامل مع البيئة وطبيعة البشر والأرض والحيوان والنبات، وبخاصة في مناطق الكثبان الرملية كالربع الخالي, ومن ثم الربط فيما بين القرائن التي تفضي إلى استنتاجات موصلة إلى الحقائق، بصرف النظر عن ذلك، فإن قبيلة آل مرة تعد واحدة من أشهر القبائل التي عرف عن بعض أبنائها قدرتهم على قص وتتبع الأثر بمهارة عالية إلى درجة أن الناس ذهبوا في الاصطلاح الشعبي إلى تسمية قصاص الأثر الماهر بـ(المَرّي) حتى لو كان من قبيلة أخرى.

يتبع: 
رحلة إلى الربع الخالي (ج۱٥): 
المرّيّ يكشف أسرار قص الأثر

رحلة إلى الربع الخالي (ج ۱۳)

يوم الجراد


كتب وصوّر: محمد اليوسفي

قائد السيارة الذي يتقدم القافلة في رحلتنا إلى الربع الخالي تقع عليه مهمة إرسال التنبيهات والتحذيرات إلى بقية السيارات بواسطة أجهزة الاتصال اللاسلكي، وكنا نتابع المسير في ظهيرة أحد أيام الرحلة في أطراف منطقة تسمى الحباك قبل أن نصل إلى منطقة العروق المعترضة في الزاوية الجنوبية الشرقية من المملكة، وهاتان المنطقتان من أجمل المناطق التي مررنا عليها من حيث تميزها بكثافة الغطاء النباتي من شجيرات الأرطى والعلقى والزهر والثدّاء والهرم والحاذ، ولم ننتظر في هاتين المنطقتين بالذات من قائد سيارة المقدمة, إلا تنبيهات لما اعترضه من مصاعب قد تعيق تقدم بقية السيارات، لكن المفاجأة الجميلة بالنسبة إلى بعضنا أن صوت السائق انطلق عبر أجهزة الاتصال اللاسلكي بعبارة (الجراد.. الجراد.. لا يفوتكم). كانت المسافة التي تفصل بين السيارة والأخرى من السيارات الست في حدود كيلومتر واحد ولهذا لم تتسن مشاهدة أسراب الجراد إلا لراكبي سيارات المقدمة بعد أن أفزعتها السيارة الأولى وطارت كأسراب بدت كالسحاب في كبد السماء - حسب إفادة السائق - منطلقة باتجاه الشمال الغربي في عمق أراضي المملكة من الربع الخالي.
أوقفنا السيارات وترجلنا لمشاهدة ما تبقى من الجراد على الأرض كي نتلقط الصور الفوتوغرافية قبل أن ننطلق من جديد لمواصلة الرحلة.
توقفت متأملا أنظر إلى الأصدقاء المستمتعين بمطاردة الجراد مستحضرا مشهدا مغايرا - لم أدركه وأبناء جيلي – لعله لا زال محفورا في ذاكرة بعض كبار السن الذين عانوا في حقب الجوع وشح الموارد. حالة فزع تصيب الأجداد عندما تغزو حقولهم ومراعيهم أسراب الجراد فيهرعون إلى طردها بواسطة قرع الطبول ودفعها إلى الابتعاد.
كان الأجداد يؤرخون سنوات بعينها شهدت غزوات الجراد ونتج عنها أضرار أو تدمير لحقولهم ومراعيهم، فيطلقون على مثل هذه السنوات ( سنة الجراد، أوجرادان، أو سنة الدبا...)، ومن بين أبرز السنوات المؤرخة بالجراد في القرن الهجري الماضي سنة 1307هـ سميت سنة الدبا لأنه قضى على المحاصيل الزراعية في نواحي من نجد وفسدت مياه الآبار التي تساقط فيها بكميات كبيرة (الدبا والدبى كلمتان فصيحتان تعني طور من أطوار الجراد عندما يكون صغيرا). ومثل ذلك سنة دبا أخرى عام1325هـ، كما سمي عام 1349هـ سنة الجراد إذ هجم على أجزاء من منطقة القصيم خلال فصل الربيع، أما أبرز السنوات التي سميت سنة الدبا عام 1364هـ بعدما حطت في معظم أرجاء نجد أسراب هائلة مكثت عدة أشهر وأتت على المزارع والمراعي حصدا وفتكا، ووضعت بيضها ثم فقس عن دبا خرب المزارع وسقط في الآبار ولوث مياهها، ولازال بيننا من عايشوا تلك السنة، وبعضهم يذكر ان المزارع التي أصابها عدد هائل من الدبا أتى حتى على نخيلها فالتهم العذوق والعسبان، وبلغت مقاومة الناس حد أنهم كانوا يحفرون الخنادق حول المزارع حتى يقع فيها الدبا الذي لا يقوى على الطيران ثم يدفنونه.

ومع كل ذلك كان الأجداد يفرحون بقدوم الجراد في حدود أن يبقى في أسراب قليلة لا تضر، فما أن يأتي الرواد بأخبار الجراد يخرج الناس في الصباح الباكر يخبرون بعضهم بالنداء (ياجرّادوه .. ياجرّادوه)، فهو لديهم غذاء لذيذ يجمع فيؤكل مطبوخا ومشويا، ويفضلون منه (المكن) وهي الأنثى تكون بلون وردي قبل أن تفرغ البيض من أحشائها، بينما لا يفضل للأكل الزعيري (الذكر) الذي يكون بلون أصفر. وكان ينظر للجراد على أنه دواء باعتباره يتغذى بالأعشاب والنباتات المفيدة، ولهذا قالوا في المثل (إذا جاء الفقع صر الدواء وإذا جاء الجراد انثر الدواء). والمعروف أن أكل الجراد جائز شرعا، وهو غني جدا بالبروتين والدهون ويحتوي على عناصر أخرى مفيدة. وتحذّر مؤخرا نشرات وزارة الزراعة والهيئات الصحية مع كل موجة تسرب جراد إلى المملكة من أكله خشية تلوثه بالمبيدات الحشرية، ومع ذلك نرى أشخاصا من غير جيل (يا جرّادوه.. ياجرادّوه) يترقبون الجراد ويشترونه من الأسواق الشعبية رغبة في أكله غير مكترثين بالتحذيرات.

ومن الأسماء التي تطلق علي الجراد اسم ( التهامي) نسبة إلى منطقة تهامة؛ حيث اعتقد الأجداد قديما أن الجراد يخرج فجأة من البحر من أعين الأسماك وبطون الحيتان فيقع على تهامة ومنها يتحرك في غزواته إلى بقية أنحاء الجزيرة العربية. والحقيقة أن أغلب أنواع الجراد الصحراوي المهاجر عابرة للبحر تأتي إلى أراضي المملكة من شرق ووسط أفريقيا حيث تتكاثر هناك خلال مواسم الأمطار ثم تنطلق على هيئة أسراب في أكثر من اتجاه. ولم يتوصل العلماء إلى دوافع هجرة الجراد، ويشير بعضهم إلى أنها قد تكون بسبب نقص الغذاء أو حدوث فيضانات، كما أن الدراسات لم تستطع رسم مسارات لطرق الهجر بشكل محدد وثابت، إذ تختلف وجهتها من عام إلى آخر، وقد تهاجر في أي سنة، وهناك من العلماء من توصل إلى أن للجراد موجات هجرة تتكرر كل خمسة عشر عاماً.

يتبع: 
رحلة إلى الربع الخالي (ج۱٤)
بعنوان (المَرّيّة)

الاثنين، 29 ديسمبر 2014

رحلة إلى الربع الخالي (ج۱۲)

غاز سامّ ينفثه ثعبان دفان


كتب وصوّر:  محمد اليوسفي

هذا جزء من مقال يتناول رحلة إلى الربع الخالي. حرصت على تنوع الموضوعات في الأجزاء السابقة. لعل المتابع اكتشف أنني في كل جزء أبدأ بالحديث عن واقعة في الرحلة ثم أستطرد في جوانب معلوماتية متعلقة بها مكملا بصورة إما معبرة أو موضحة.
في كل يوم من أيام رحلتنا نحدد الساعة الرابعة والنصف عصرا موعدا لنهاية التجوال؛ حيث تتوقف قافلة السيارات ونبدأ في تجهيز المكان بنصب الخيام إذا لزم الأمر، وإعداد وجبة العشاء التي نتناولها غالبا فيما بين الساعة السابعة والثامنة، ولا يبقى وقت للسمر سوى ساعة أو أكثر قليلاً، فالجميع يخلد إلى النوم فيما بين الساعة التاسعة والتاسعة والنصف. في إحدى الليالي حل ضيف من أبناء المنطقة في ترتيب مسبق مع أحد أعضاء الرحلة. المجاملة تقتضي أن تكسر قاعدة توقيتاتك، ولذلك تجاوزنا الساعة العاشرة والضيف مندمج في حديث متصل عما أسميه (سواليف) السمر التقليدية المتداولة عند البسطاء التي لا تخرج عادة عن قصص ومرويات شعبية تدور حول موضوعات مثيرة بطبيعتها أدناها الثعابين والهوام وأقصاها الجن والمفترسات في البرّيّة. تختلف المناطق وتتباين الخلفيات الشعبية ويبقى اللب واحد فيمثل هذه المرويات التي تتكئ غالبا على ما نقل عن أفواه (الشيبان)، وإذا كان ثمة اختلاف ففي تفاصيل محدودة.

روى الضيف شيئا غريبا- وهذا ما أسمعه لأول مرة – يحدث في الربع الخالي، إذ قال إن هذه الرمال تخفي نوعا من الثعابين خطير جدا بمقدوره نفث هواء(غاز)على جسم الإنسان يؤدي إلى موته عند(أول نومه). وأنه يخرج فجأة من وسط (الطعس) وينفث ثم يختفي سريعا بواسطة اختراق سطح الرمل كما لو أنه (دريل )وأن الإنسان المنفوث - على وزن الملدوغ- لا يشفى إلا إذا (استمر مستيقظا مدة خمسة أيام بلياليهن)!

لا أدري ما إذا كانت هذه الحكاية مختزنة في الذاكرة الشعبية عند أبناء المنطقة أم أنها من مستحدثات ما ينقل عن بعضهم ويضخم فيما يصل مبلغ الخرافات أم أن الضيف (متحمس حبتين) ويريد فقط المشاركة في الحديث. على أي حال، ألقيت عليه أسئلة مستوضحا الأمر وعرفت من الأوصاف التي ذكرها أنه يتحدث عن ثعبان وديع.. نعم وديع! يوجد في عموم المناطق الرملية في المملكة، ويسمى الثعبان الدفان، وقد سمي بهذا الاسم بسبب قدرته على اختراق الرمال بسرعة ودفن جسمه في باطنها، وهو النوع الوحيد في المملكة من تلك الفصيلة التي تصنف تحت ما يعرف بالثعابين العاصرة؛ حيث يلتف الثعبان على فريسته ويعصرها بقوة حتى تموت ثم يبتلعها، لكن هذا الدفان لا يستطيع أن يفعل ذلك سوى مع فرائس لا تتجاوز حجم القوارض الصغيرة بسبب أنه صغير إذ يبلغ طوله نصف متر، ليس هذا فحسب بل إنه غير سام ولا يتسبب بأي أذى على الإنسان، بعكس ما ذكر لنا الضيف، أما مسألة قدرته على نفث غاز سام فخرافة من خيال الضيف أو نقلها عن غيره.

أما الاعتقاد بجدوى عملية العلاج بالسهر خمس ليالي! أو (مساهر القريص)؛ والقريص هو الشخص الذي تعرض لعضة ثعبان أو لدغة عقرب، فهناك زعم شعبي شائع؛ في أكثر من منطقة خصوصا في نجد، يقول إن دفع الإنسان القريص إلى عدم النوم عدة أيام يؤدي إلى شفائه من أعراض التسمم ونجاته من الموت، وقد كانت تمارس إلى وقت قريب طقوس تجاه ذلك فيتناوب أقرباء القريص وأصحابه للجلوس والتحدث معه وإذا لزم الأمر تضرب بجواره الطبول لئلا ينام، ويبقون على هذه الحالة عدة أيام ثم يتركونه إذا ظنوا أنه شفي تماما.

والواقع أن القريص قد يكون ملدوغا من ثعبان غير سام أو ثعبان ضعيف السميّة أو حتى ثعبان شديد السمية لكن لم ينفذ إلى جسم القريص جرعة كافية تؤدي إلى الموت، ولهذا يعتقدون أن السهر هو الذي أدى إلى علاجه أو نجاته بينما السم لم يدخل إلى جسمه أو أن الجرعة لم تكن قاتلة. والحقيقة أن هذه الطريقة وغيرها من الأساليب والطرق الشعبية المتبعة في علاج سموم الثعابين والعقارب، لم تثبت – بحسب المصادر المتخصصة – فاعليتها ولا إمكانية قدرتها على شفط السم أو معالجة التسمم, ولا يُنصح باستخدامها.

يتبع: 
رحلة إلى الربع الخالي (ج۱۳).. 
يوم الجراد


رحلة إلى الربع الخالي (ج۱۱)

السمك "المُقَوِي" يسبح في الرمال


كتب و صوّر: محمد اليوسفي

(لقد أكلت أنا العبد الفقير من هذا السمك، وكان لذيذا و"مقويا" بدرجة ملحوظة، وكانت الأسماك تسبح في الرمال كما لو كانت تسبح في البحر), هذا نص مقتبس من كتاب لرحالة تركي اسمه أوليا جلبي عُرف عنه الاهتمام بالفلكلور والغرائب، وهو صاحب كتاب من عدة مجلدات بعنوان سياحة نامه يتحدث فيه عن البلدان التي زارها والشعوب التي خالطها. وقد طاف شبه الجزيرة العربية في القرن الحادي عشر الهجري. وفي وصفه لتصرفات مرافقيه من أبناء المنطقة ذكر أنهم يقدمون لكبيرهم سمكا رغم أنهم في عرض الصحراء، مستغربا من ذلك وهو لا يرى أنهارا أو بحيرات!
أيعقل.. سمك يسبح في الرمال؟!
لعلك تشك في امتلاك (ابن جلبي) الحد الأدنى من فضول الرحالة ووضوح الباحث، وإلا لكشف عن حقيقة ما وصفه. وستعرف عزيزي القارئ المقصود بسمك الرمال، وما يقال عن تأثيرات أكله وكيف كان أجدادنا يتخذونه مقويا يشحن الرجال بـ"الطاقة المرغوبة", وكيف يُروج حاليا للنساء خلطات شعبية يدخل في تركيبها (هذا السمك!) بزعم منفعته لعلاج العقم والضعف الجنسي لدى أزواجهن.
أعيد التذكير بأنني بصدد كتابة جزء ضمن سلسلة مقالات عن رحلة إلى الربع الخالي. كتبت في الجزء السابق عن أحد رفاق الرحلة (الشقردي) الخدوم صالح الذي يتمتع بصفات ومزايا تتطلبها طبيعة الرحلات البرية الطويلة. اليوم أتحدث عن مساعده (أيمن), هو أصغر الرفاق سنا, وأقلهم تحدثا ومشاركة في النقاشات, قصير القامة نحيل الجسم خفيف الوزن, لكنه ذو همة عالية, لا يوقفه طوال أيام الرحلة عن الحركة والنشاط والعمل الدؤوب إلا النوم.
في مرحلتي العمرية, أقف خلف أجيال كانت حتى وقت قريب, تنظر إلى المراهقين والشباب أصحاب الأسماء؛ التي لم تعرف سابقا في المجتمع النجدي مثل "أيمن وأمجد وفراس ولؤي...." بنظرة قاصرة تنطوي على صورة ذهنية مؤطرة بأحكام مسبقة عناوينها الانفصال عن التقاليد والموروث أو الليونة والنعومة, وربما يتصور قارئ أن الفاصل بين تلك الأسماء والخشونة وحسن التصرف في المواقف الصعبة مسافة تصل إلى أبعد من المسافة بين شخص يبيت في غرفة بفندق برج الفيصلية وبين آخر ينام في عراء كثبان عروق الخرخير. لم أنظر إلى أيمن بهذه "النظرة النجدية" لكنه فاجأني في الرحلة بتفوقه على أقرانه ومن هم أكبر منه سنا بسرعة البديهة وحسن التصرف في معرفة تفاصيل متعلقة بالحياة البرية وثقافة الصحراء.
في منتصف الرحلة أثناء التوقف في محافظة الخرخير للتزود بالوقود وما هو متاح من الاحتياجات التموينية, جاءني أيمن, وكنت أستقل سيارة بعيدة عنه, يحمل شيئا مضموما في يده بعناية وقال مداعبا هذه هدية. هو خصني بالإهداء لسبب أنني مهتم بالتقاط صور فوتوغرافية لأي كائن فطري يدب على الصحراء لا لشيء آخر!
هدية أيمن نوع صغير من الزواحف التقطت له صورة وأخليت سبيله ليندس وسط الرمال, وهذا النوع أطول من أصبع الرجل البالغ وأسمك منها, وناعم الملمس لكن فيه قوة عجيبة مقارنة بحجمة, وإذا أمسكت به يخيل إليك أنه عبارة عن قطعة من عضلة قوية متماسكة بشدة. وصدّق أو لا تصدّق ما زال هناك من يأكله على خلفية.. هذا ما وجدنا عليه أباءنا وأجدادنا الذين كانوا يعتقدون أنه مقوٍ للباءة بل ولعلاج العقم وضعف الرجال. ولعل هذا هو سمك الرمال الذي قصده (ابن جلبي).
يسمّى هذا الزاحف في المصادر المتخصصة السقنقور, أو الصقنقور عند العوام, كما يعرف؛ لدى سكان مناطق أخرى في المملكة ذات كثبان رملية باسم "الدّسيسة, والدّميسة" لأن له القدرة على أن يندس وسط الرمال, بل يخترقها سريعا ويغوص في جوفها كما لو أنه يسبح, ويعيش وسط هذه البيئة ولهذا قيل عنه "سمكة الرمال". ويتغذى بالحشرات وبعض أجزاء الأعشاب كما يتناول حبيبات الرمل ليستفيد من العناصر العالقة بها.
وفيما يتعلق باتخاذه علاجا ومقويا, فقديما كان هناك من يأكله بعد ذبحه وتنظيفه لحما "طازجا" مطبوخا أو مشويا! أو بتجفيفه مع الملح ثم سحقه, ويباع "مسحوق السقنقور" في محلات العطارة, كما يخلط المسحوق مع العسل ويباع كعجينة. غير ذلك, يستخرج العطارون من شحم هذه السحلية دهناً يستعمل كمرهم, كل ذلك من أجل "الطاقة المرغوبة" واستعمالات أخرى. ولو جربت عزيزي القارئ ولقّمت قوقل كلمتي التداوي بالسقنقور فسوف يحيلك إلى آلاف النتائج منها جزء كبير عبارة عن مواقع ومنتديات نسائية تتواصى وتتطبب للأزواج بالخلطات والمنتجات السقنقورية! وبعضها يوحي لك أن الحديث ليس عن سحلية تافهة بل عن "قوة سنافية" عجيبة!. وقبل التعجل والسخرية والذهاب إلى مصطلحات (خرافات, خزعبلات, جهل, دجل..) فسآتي بما يبعث على الحيرة فأقول: بين يدي مقال يشير إلى فوائد علاجية متعددة لتناول السقنقور والخلطات التي يدخل في تركيبها, نشر في صحيفة محلية كبرى قبل أعوام للأستاذ الدكتور جابر بن سالم القحطاني أستاذ العقاقير والوجه الطبي الإعلامي المعروف. أقتبس أجزاء منه, فقال القحطاني: "الأفضل للتداوي الذكر "يقصد جنس ذكر السقنقور" وذلك فيما يخص تنشيط الباءة، بل الذكر هو المخصوص بذلك وليس الأنثى.. وخصيته أهم ما فيه.. والجزء المستخدم من السقنقور الجزء الذي يلي الرأس وذنبه وشحمه, والوقت الذي ينبغي أن يُصاد فيه هو فصل الربيع فإنه يهيج فيه فيكون أبلغ نفعا.. وعادة الجرعة من مسحوق السقنقور كمنشط للباءة يجب أن لا تتعدى ثلاثة جرامات فهذه الجرعة تقوي آلات ماء الرجل وتزيد في شهوة الباءة وتقوي البدن وتهيج الجماع". انتهى كلامه.
خطر ببالي الآن مشهد كوميدي للممثل حسين عبد الرضا في مسلسلة الأقدار وهو يقدم لسعد الفرج علاجا لعقم الأخير عبارة عن "كبد نمل وبيض ثعابين مع منقار هدد يتيم حول"!.
إذا أصابتك الحيرة بعد الاقتباس الأخير, فاغلق الصفحة وانتظر – إن رغبت – الجزء التالي (ج
۱۲) من رحلة إلى الربع الخالي بعنوان (غاز سام ينفثه ثعبان دفّان)!

الأحد، 28 ديسمبر 2014

رحلة إلى الربع الخالي (ج۱۰)

الحارس حصان إبليس


كتب وصوّر: محمد اليوسفي


بدأت في الأجزاء السابقة من هذه الرحلة بوصفها متناولا مفاهيم تتعلق بالتاريخ والمكان والتضاريس والصيد وعرجت على سرد أحداث ووقائع ربطتها بجوانب تتعلق بالحياة الاجتماعية والثقافية لسكان بعض محافظات هذا الجزء من المملكة (الربع الخالي), أو كما يحلو للبعض تسميته بـ(الربع الغالي).
أنتقل إلى اللطائف والطرائف، وأبدأ بصالح أحد الرفاق في الرحلة، رجل دائم الابتسامة بشوش وخجول لا يُسمع له صوت، وهو من أولئك القلة الذين ينأون عن طقوس التنزه والاستمتاع بالرحلة على حساب خدمة المرافقين وعن طيب نفس، فصالح يجد راحته ومتعته في البقاء داخل المخيم يعد الوجبات ويلبي الحاجات بلا كلل أو ملل، ويساعده في ذلك تمتعه بمزايا خاصة تجعله باستمرار محط أنظار الجميع إذا تطلب الأمر الخبرة في شأن ما، فمن المهارة في قيادة السيارة وسط معترك كثبان متلاطمة من الرمال إلى معرفة التفاصيل في ميكانيكا السيارات وأعطالها والتجهيزات اللازمة للرحلة وليس انتهاء بحسن إدارته للاستعدادات التموينية. صالح يذكرني «بشقردي» آخر من هواة الصيد حفظت عنه أبيات للشاعر حمد السعيد من تكراره لترديدها، فكلما توقفنا للراحة وإعداد الوجبات أنشد:


ربع نشاما بالمواقف رجاجيل

والا الرّدي معنا شحيح محله

وقت المغدّا كل ابوهم شواغيل

ما احد حسب خدمة خويه مذلّه

كبيرهم لا دار ببيض الفناجيل

من خف روحه بينهم زان دلّه


تأكدت أن صالحا كان - طوال ليالي الرحلة - آخر من يهجع بعد أن ينام الجميع، وهو أيضا أول من يستيقظ قبيل الفجر مستقبلا يوما حافلا بالنشاط وأحيانا بالإجهاد. في إحدى الليالي أخّرت عن قصد الموعد المعتاد لنومي، والتأخير هنا يعني أنني لم أنم بعد أن تجاوز الوقت الساعة التاسعة، سألته عن سرّ بقائه مستيقظا رغم أنه أكثرنا نشاطا في النهار وأحوج منا إلى الراحة والنوم الباكر، أخبرني أن ذلك طبع، فقد تعوّد على أن ينام في الأخير ويستيقظ في البداية، ولعل هذا الطبع؛ خلال المبيت في الربع الخالي، لدى من هم على شاكلة صالح في تحمّل المسئولية ينشأ عن هاجس أمني في هذه الصحراء النائية؛ التي لم يكن بعضهم يعرف عنها - قبل سنين - سوى أنها مسرح للمتسللين الذين يغدرون بالصيادين ممن يغامرون في الوصول بسيارات دفع رباعي حديثة تثير أطماع هؤلاء وتدفعهم للسطو. وقد يعود الهاجس إلى (الحَزَابَة) أو الحرص الشديد والمبالغة في تقدير أدق الحسابات لأبسط الأشياء. لكن الحقيقة أن التحوط والأخذ بالاعتبارات الأمنية ينبغي أن يكون هاجسا ملحّا كلما قل عدد السيارات والأشخاص الذاهبين في رحلة طويلة إلى مناطق صحراوية بعيدة عن التجمعات السكانية, ومنها الربع الخالي.


لم أجد داعيا؛ في تلك الليلة، للاستطراد مع صالح في هذا الموضوع، فالهواجس والاحتياطات الأمنية بعد موضوعي الجنّ والثعابين ثالوث تدور حوله حكايات ذات شجون في ليالي البرّيّة، وهي حكايات تنطوي أحيانا على المبالغات والمتناقضات (والأكشن) فيتشعب الحديث ويمتد ساعات على حساب النوم والراحة. قبل أن نتفرق ويذهب كل منا إلى فراشه لمحت حشرة طويلة تشبه نوعا من الجراد النطاط يسميه أهل نجد حصان إبليس. قلت لصالح مداعبا خذ هذا (الحارس) الشخصي لفراشك بعد أن ألتقط له صورة فوتوغرافية، فسوف يدفع عنك أثناء النوم العقارب والعناكب السامة والحشرات الأخرى ويفترسها دون أن يؤذيك.

طلبت من صالح أن يسلط إضاءة المصباح اليدوي على هذه الحشرة الوديعة ويراقبها ريثما أحضر الكاميرة. كنت أصور وصالح يسأل كيف تكون حشرة بحجم الجراد الصحراوي حارسا شخصيا؟



قلت: سأجيبك ولكن إليك أولا معلومات تفسر سر استخدامه حارسا ليليا، فهذا نوع من المفصليات يعرف في المصادر المتخصصة باسم السرعوف، ويسمى عند العوام فرس النبي، والاسم الأخير له جذور إغريقية حيث يسمى النبي، لأنه عادة يقف منتصبا ويطبق أطرافه الأمامية على بعضها كأنه يصلي. وفي بعض الدول العربية يسمى جمل الرسول، ويسميه بعضهم في نجد خطأ (حصان إبليس)، والاسم الأخير يطلق على نوع من الجراد النطاط آكل للأعشاب، وليس هذا السرعوف المفترس الذي يوجد له أنواع صغيرة وكبيرة، وقد يصل طول الكبير إلى عشرة سنتيمترات، ولا يظهر هذا الحارس غالبا إلا في الصيف، وربما كان لدفء الأجواء في الربع الخالي دور في أن نجده تلك الليلة، فقد بلغت درجة الحرارة ونحن في شهر فبراير 31 درجة في ظهيرة أحد أيام الرحلة.

ويوجد فرس النبي غالبا على الأرض، ويبقى أحيانا على الأشجار المشابهة للونه متخفيا عدة أيام، ولا يستخدم الأجنحة للطيران إلا في حالات نادرة. وهذا نوع بلون أخضر (الصورة) يتميز بقدرته على مد أطرافه الأمامية منطبقة أمامه، ويتغذى بالحشرات التي تضرّ الإنسان، ويساعده في الافتراس فك قوي يواجه به دون خوف العناكب والعقارب ويقتلها. ومع ذلك لو جربت التعامل معه فهو وديع، وإذا وضعته على راحة يدك ومددت له طعامه يتجاوب بهدوء ويأكل من يدك، كما يمكن - وهنا مربط الفرس - الاستفادة منه بواسطة ربطه بخيط دقيق بطول لا يتجاوز محيط فراشك كي يبقى جوارك أثناء النوم في الصحراء ليعمل حارسا أمينا فيقف بالمرصاد لبقية الحشرات الأخرى خاصة العقارب والعناكب ويفترسها فيكفيك شرّ أذيتها المحتملة. وواقع الأمر أن في الصحراء أسرار كثيرة للتعايش مع بيئتها ومكوناتها وقسوتها ومخاطرها.


يتبع الجزء (۱۱):
رحلة إلى الربع الخالي.. 
السمك (المقوي) يسبح في الرمال!

رحلة إلى الربع الخالي (ج٩)

قويتوا، والكشكشة


كتب وصوّر: محمد اليوسفي

تعتبر محافظة شرورة أو كما يطلق عليها أهلها (عروس الربع الخالي) واحدة من محافظات إمارة نجران، وتبعد عنها باتجاه الشرق بنحو ٣٥٠كم، وتقع في سهل منبسط، وبالقرب منها منفذ الوديعة الحدودي مع اليمن، ويزيد عدد سكانها بقليل عن اثنين وسبعين الف نسمة، ولا تختلف كثيرا عن المدن الصغيرة في مختلف أرجاء المملكة سواء في نموذج تخطيطها أو في مستوى مرافقها وخدماتها.

تصورت قبيل زيارتي لها أول مرة, من أجل التزود بالاحتياجات التموينية خلال هذه الرحلة إلى الربع الخالي، أن حركة سكانها وايقاع حياتهم اليومية يلفهما الهدوء، ربما بنيت التصور على خلفية أنها تقع في أحضان تلك الصحراء الممتدة الساحرة بسكونها وغموضها. الواقع أن جولة قصيرة أعطت انطباعا مغايرا. توقفت بداية عند اسمها وسألت عن المعنى أو الدلالة فقيل لي تعليل الاسم بسبب وجود حصى في أطراف المنطقة، ولأن القوافل قديما عندما كانت تعبرها تطأ الأبل أرضها فتبعثر بأخفافها الحصى فيضرب بعضه بعضا فيتولد من ذلك شرر، ولهذا أطلق عليها اسم شرورة.

لفت انتباهي في أحد الشوارع نصب أو برج صنع بعناية يتوسطه نحت كلمة (قْوِيْتُوا)، وتلك كلمة للتحية جذورها من قبائل تلك المنطقة. والربع الخالي (عموما) سكنه في الوقت الحاضر (بحسب توثيق كتاب الربع الخالي الصادر عن هيئة المساحة الجيولوجية) القبائل التالية: يام والدواسر وآل مرة والمناصير والمزاريع وآل أبو شامس وبني ياس وآل أبو فلاح والدروع والعوامر والحراسيس والعفار والرواشد وآل كثير والمناهيل والمهرة والصيعر ودهم. وإذا ذكرت محافظة شرورة فأكثر ما يرتبط بها قبيلة الصيعر. وتُغني كلمة (قويتوا) عن المصافحة باليد، وهي تقال للمفرد (قْوِيْتْ) والمعنى الدعاء لمن ألقيت عليه التحية بأن يمنحه الله القوة والسلامة. فيرد (نْجِيْتْ) ومعناها الدعاء للمحيي بالنجاة. وقد سمعت في زيارتي العابرة لشرورة الكلمة تتردد أول مرة بين أصحاب محطة بنزين ثم في محل بقالة في الخرخير، وهذه محافظة صغيرة تبعد عن شرورة شرقا بأكثر من خمسمائة كيلومتر، وتقع في حافة حدود المملكة مع اليمن، ولا يتجاوز عدد سكانها أربعة آلاف نسمة، وسميت بهذا الاسم نسبة إلى موقعها وسط عروق من الكثبان الرملية تعرف باسم عروق الخرخير.

بدا لي أن (قْوِيْتُوا) شعار في شرورة وما حولها مثلما أن (مرحبا تراحيب المطر) شعار في الطائف أو (مرحبا هيل عدّ السيل) في الباحة أو (مرحبا ألف) في مدن وقرى عسير أو (أرحبوا) في نجران، وهكذا. لا شك أن هذه الشعارات تعبّر عن بشاشة أهلها، ولعل تكرار ترديد التحية والترحيب في تخاطب سكان مناطق جنوبي المملكة مظهر للاهتمام بالزوار ومقدمة لإكرام الضيوف. هذه صفة حميدة، لكن ثمة سمة بارزة بين هؤلاء السكان وهي السرعة في كلام الناس في الحديث المتبادل، وهذه السمة تعطي - في تقديري - ايقاعا موسيقيا لطيفا خصوصا إذا ما صاحب الكلام تكرار خصوصية نطق حرف الشاء في لهجة الجنوب ولهجة بعض قبائل شرقي المملكة كضمير لخطاب المؤنث، كأن يقول أحدهم يخاطب أمه: كيف حالش؟ أي كيف حالك؟ مثلما يقال عند سكان وسط المملكة كيف حالس أو حالتس؟ ولهذه اللهجة أصل في لغة العرب، فمصادر اللغة تفيد أن بعض قبائل العرب قديما كانت تُلحق حرف الشين بعد كاف المؤنث عند الوقف، فيقال (هذا الثوب لكش)، أي لكِ، وتضيف قبائل أخرى حرف السين فيقال (هذا الثوب لكس)، أي لكِ، وبسبب اجتماع حرفي الكاف والشين سميت الأولى عند أهل اللغة الكشكشة، وسميت الأخرى بسبب اجتماع حرفي الكاف والسين الكسكسة. وكانت قبائل عربية تكتفي بإبدال كاف المؤنث بحرف الشين أوالسين. ومن قديم الشواهد الشعرية على ذلك قيل:
 
فعيناش عيناها وجيدش جيدها
سوى أن عظم الساق منش دقيق
أي:
فعيناك عيناها وجيدك جيدها
سوى أن عظم الساق منك دقيق

ومن شواهد الشعر الشعبي تلك الابيات الغزلية البسيطة التي أعزوا سبب انتشارها قبل فترة عبر رسائل الجوال وفي منتديات ومواقع الإنترنت إلى تلك الشين التي يضفي تكرارها ايقاعا موسيقيا لطيفا، وهي للشاعر ضيدان بن قضعان العجمي:
 
يا مرحبا ترحيبة كلها لش
تكسيش من راسش اليا حد ماطاش
من قلب مهيوم بحبه صفا لش
يلعب به الغربي اليا سمع طرياش
يفرح اليا منه قال لش كيف حالش
ولولا غلاش وحشمتش كان ماجاش
وان قلتي انه غايتش شف بالش
كنه ملك يا عرب من الطاش للطاش
يا بري حالي وين مالي ومالش
لا والله الا لي ولش لعنبا اللاش
من هامتي لمحزمي لش حلالش
بيتش فديتش واسكني باوسط الجاش
وان ما بلشتي بي وانا فيش بالش
غديت مثل اللي شرى علته كاش
انا في وجه امش وابيش وخوالش
ما جيت لي حاجة واعود على ماش

يتبع: 
رحلة إلى الربع الخالي "الجزء العاشر"
الحارس حصان إبليس

رحلة إلى الربع الخالي (ج٨)

الجنية حَمْدَة وطبول الجن


كتب وصوّر: محمد اليوسفي

المسافر من العاصمة الرياض إلى غرب الربع الخالي يتجه جنوبا إلى السليل ثم يتجاوزها في طريق مسفلت يحاذي سلسلة جبال طويق التي تشكل سدا طبيعيا للجهة الغربية لمحمية عروق بني معارض، وهي المحمية الطبيعية الوحيدة في الربع الخالي، ثم يمر بقرية الفاو الأثرية إلى أن يبلغ مركز ظلماء التابع لإمارة نجران، وبعد ظلماء يصبح أمامه خياران من الطرق المسفلتة، فإما أن يتجه إلى مدينة نجران مباشرة وإذا أراد التوغل في جنوب الربع الخالي يتجه شرقا لمسافة ٣٠٠كم ليبلغ شرورة، أو أن يسلك من ظلماء الطريق الذي يربط السليل بشرورة مرورا بمراكز الخالدية والمنخلي وتماني. ثم بعد شرورة الاتجاه شرقا بنحو ٥٠٠كم إلى محافظة الخرخير التي أخذت اسمها من وقوعها وسط عروق رمال تسمى عروق الخرخير، وهي على حافة الحدود السعودية اليمنية. هذه الطرق تخترق عددا من العروق والشقق (الخبب) في الربع الخالي.
أطرف ما سمعت أن بعض البسطاء كانوا يتوجسون إذا سلكوا - خلال ليالي الصيف - طريق نجران شرورة بسبب ما أشيع أن هناك جنية اسمها (حَمْدَة) تشاكس العابرين بشيئين فإما بإطلاق أصوات متقطعة تشبه أصوات منبهات السيارات، وإما بإطلاق هدير قيل إنه مزيج من قرع طبول مع صراخ جنيات أخريات. سألت ولم أجد إجابة شافية حول ما إذا كانت هذه (خرافة مطورة) مستقاة من المحكيات الشعبية في المنطقة. وقد قيل لي إن الجنية حمدة تعترض أيضا عابري الطريق المسفلت الذي يصل شرورة بالوديعة مرتدية ثوبا طويلا تستر به عيب رجلها التي تشبه ساق الحمار وحافره.
(جنية بساق حمار تعترض قائدي المركبات) عنوان واحد لحكايات نسجت بصيغ مختلفة إبان دخول السيارات إلى المنطقة، وأعتقد أنه لم يعد هناك إلا القليل من البسطاء الذين يرددون مثل هذه الحكايات بنوع من التسليم بصحتها، فلم يدركوا أنها في أحسن الأحوال تزييف إخباري لخيالات (السائقين وكدادة الطريق) الذين كانوا يجهدون أنفسهم بدنيا وذهنيا خلال عبور الصحاري، ورُويت أحلامهم؛ أثناء توقفهم لغفوة، وترددت على أنها وقائع حقيقية. ومع ذلك، فقد يكون في حكاية حمده حقيقة علمية خافية!

الأصوات أو بالأحرى الهدير والطبول أو ما يوصف بأنه صراخ الجنيات في صحراء رملية كالربع الخالي لا يعدو - في تقديري - كونه تفسيرا خرافيا لظاهرة طبيعية تنتج وسط تشكيلات محددة من الكثبان الرملية في أي مكان، تلك هي ظاهرة "عزيف الرمال" أو ما يُعرف عند قدماء العرب بـ"عزيف الجن". وليس المقصود بهذه الظاهرة هفيف الرياح أو صفيرها، فعزيف الرمال أو كما يسميه العوام (طبول الجن) هو أقرب إلى الهدير،، وقد يتعجب منه الذي ليس لديه سابق معرفة بحقيقته، إذ قد يحدث في السكون وانعدام هبوب الرياح، وهو مختلف(صوتا) بعضه عن بعض، إذ تارة يشبه هدير محرك الطائرات المروحية وتارة أخرى صوت صافرات أو أبواق السفن والمراكب البحرية أو هدير الجماهير في ملاعب كرة القدم إذا أطلقت صوتا بنغمة واحدة، وقد يحدث هذا الهدير متصلا مدة ثوان معدودات أو متقطعا، وقد ينطلق فجأة مدويا أو ينساب خافتا متدرجا في الارتفاع إلى أن ينقطع فجأة.
بالعودة إلى مصادر اللغة العربية فإن العَزِيف: صوت في الرمل لا يُدْرَى ما هو، وقيل: هو وقوع بعضه على بعض. وعَزِيف الجنّ جَرْس أَصوات الجن، وقيل: هو صوت يسمع بالليل كالطبل، وقيل: هو صوت الرّياح في الجوّ فتَوهَّمَه أهل البادية صوت الجنّ. قال ذو الرمة:
ورمل عَزِيف الجنّ في عقداته
هدوءاً كتضراب المغنّين بالطَّبل
وقد اشتهرت كثبان محددة في مواقع مختلفة من جزيرة العرب بارتباطها بظاهرة عزيف الجن أو الرمل العزاف أو الرمل الحنان. لكن ثمة تفسير علمي لظاهرة (عزيف الرمال) الذي يحدث بسبب عوامل تتعلق بطبيعة تكوين الرمال وشروط وظروف أخرى محيطة بها. كيف؟
لاحظ الراصدون أن العزيف يحدث في الرمال التي تنهال بشكل طبيعي بسبب ميل الكثيب بزاوية محددة (قيل ان الميل يكون بزاوية ٣٠ درجة) في الجهة المعاكسة لاتجاه هبوب الرياح السائدة حيث يتشكل تكوين رملي دائم نسميه الهيال (الصورة)، وللتقريب هو تكوين لو وطأته بالقدم لانهالت طبقة جافة منه يقدر عمقها بشبر واحد تكون فوق طبقة متماسكة جراء رطوبة الأرض، فتنهال حبيبات الرمل متراكمة إلى أسفل الكثيب، ولا يحدث ذلك إذا كان الرمل متماسكا ومتلبدا جراء هطول الأمطار (تذكّر حكاية حمدة والجنيات في الصيف). وبالإضافة إلى ذلك يشترط استمرار تماسك الطبقة السفلية التي تنزلق عليها قشرة الرمل العلوية، أي إن العزيف ينقطع فور حدوث الانهيارات الرملية، فضلا عن أن حبيبات الرمل لا بد أن تكون مكورة الشكل، بل إن المتخصصين يحددون حجمها فيما بين نصف مليمتر إلى مليمتر واحد، وثمة نظريات مختلفة لتحديد مصدر الصوت بدقة سعيا للإجابة على هل هو نتاج دوران حبيبات الرمل الزجاجي أثناء انزلاقها أوبسبب اصطدامها بالهواء أو لأسباب أخرى بالتأكيد ليس للجن ولا (لحمدة المزعومة) علاقة بها.

يتبع: الجزء التاسع:
 رحلة إلى الربع الخالي.. 
قْوِيتوا والكشكشة

السبت، 27 ديسمبر 2014

رحلة إلى الربع الخالي (ج٧)

اقتحام المجهول بكتاب


كتب وصوّر: محمد اليوسفي


قبل أكثر من ١٧ عاما، ومع بدء انتشار استخدام عامة الناس في المملكة لأجهزة نظام تحديد المواقع العالمي(GPS)، تلك التي تداولوها باسم "الماجلان، والقارمن"، وفي وقت كان جزء صحراوي من شرقي المملكة (الصمان) شبه مجهول لدى كثيرين، ظهر كتاب بعنوان الصمان لمؤلفة سعد الشبانات. الكتاب بحث في تأريخ المكان وأتى بمعلومات من ميدانه ووصف الأجزاء الرئيسة لهذه الهضبة الجميلة وحدد أسماء كثير من مراكزها وفياضها ورياضها ورجومها ورصد إحداثياتها وفقا لنظام تحديد المواقع، ووثّق كل ذلك مستخدما الرسوم والخرائط والصور الفوتوغرافية.
هذا الكتاب؛ ومثله الكتب التي تتفرد بتحقيق أماكن صحراوية تعارف الناس على أنها مجهولة بسبب قلة التجمعات السكانية فيها، نجدها لا تحظى بقبول المتخصصين والبلدانيين والمهتمين فقط، بل هنالك فئات أخرى تتلقفها وتستخدمها كأدلة تساعدها على الوصول إلى براري بكر غنية بأشجارها ومراعيها وأحيائها الفطرية المختلفة. والنتيجة؛ إذا أخذت الصمان مثالا، قبل الكتاب وبعده، أن المكان المعلوم لفئة محدودة من سكان المنطقة أو ملاك الماشية الباحثين عن المراعي الخصبة أصبح غير مجهول لكثيرين ابتداء من عشاق الوقوف على الأطلال والمعالم الأثرية مرورا بمحبي التنزه البيئي وهواة "الكشتات" وليس انتهاء بالمراهقين من ممارسي الصيد، فتوسعت دائرة المرتادين والمتنزهين والصيادين والعابثين والمجازفين أيضا.
وبالتدريج بدأت تختفي؛ جراء الصيد والاحتطاب الجائرين واستنزاف مكونات الطبيعة البرية وتلويثها، الأشجار والمظاهر والأحياء الفطرية الجميلة. ليس هذا فحسب، فقد أصبحنا نتداول تكرار أخبار فقد أبنائنا وموتهم في الصحاري جراء التساهل بالمجازفة في اقتحامها. صحيح أن الطفرة في استخدام الخرائط الرقمية "أو سمّها الدليل الآلي إن شئت" ساعدت على تمكين أي مبتدئ من الوصول إلى أبعد مكان دون الحاجة إلى دليل بشري، وأشاعت الجرأة والمجازفة في اقتحام الصحاري النائية، لكن لا أحد يستطيع إغفال أهمية توافر توثيق حد أدنى من المعلومات عن طبيعة المكان وأسماء أجزائه ومداخله ومخارجه ومدقاته وتضاريسه، وأقصد بالتوثيق ما تحتويه أي وسيلة معتبرة ومتاحة للعامة، وليس المعلومات المنقولة مشافهة عن أي مكان مجهول، فهذه تبقى غالبا في حيز انتشار محدود.
قارن بين قلّة مرتادي الصمان حين كانت المعلومات الموثّقة قليلة وبين كثرتهم بعد صدور كتاب الشبانات بمساعدة عوامل أخرى، ستجد أننا أمام حالة مشابهة فيما يتعلق بالربع الخالي. فمرتادوه قلة (الآن) لكن المتوقع تغير الحال بعد أن خرجت هيئة المساحة الجيولوجية السعودية بكتاب سيكون "دليلا" مشاعا عنه. فقد صدر كتاب بعنوان "الربع الخالي: بحر الرمال العظيم" تأليف محمد بن أحمد الراشد وعبدالله بن صالح العنيزان، وبمشاركة ومراجعة وتدقيق ستة عشر باحثا ومتخصصا وبإشراف معالي رئيس هيئة المساحة الجيولوجية الدكتورزهير نواب. يقع الكتاب في أربعمائة صفحة من القطع المتوسط. قسّمه المؤلفان إلى أربعة أبواب ضمت عناوين فرعية شملت موقع الربع الخالي ومساحته وتسميته ونشأته وتكوينه ومظاهره الطبيعية والمراكز السكانية التي تقع فيه والطرق والمسالك التي تخترقه وموارد المياه والبيئة الفطرية والثروات الطبيعية التي يكتنزها، إضافة إلى ملاحق أبرزها الخرائط التفصيلية، والمصطلحات المحلية للمظاهر الطبيعية التي تستخدم بين سكان الربع الخالي والمناطق الأخرى في المملكة، هذا فضلا عن رصد 2645 موقعا مصنفة حسب طبيعتها وتضاريسها مع تحديد دقيق لكل موقع حسب دوائر العرض وخطوط الطول "الإحداثيات".
لست بصدد تدوين عرض مفصّل للكتاب أو التنويه بمزاياه أوالاستفاضة بالحديث عنه كنتاج جهد ميداني ضخم، ولست بصدد الإشادة ببراعة المؤلفين في حشد أكبر قدر من المعلومات في أقل عدد من الصفحات خاصة فيما ضمه الباب الرابع المخصص للمظاهرالطبيعية؛ حيث ابتعدا عن "الحشو التجاري" الذي نراه في بعض الإصدارات الأكاديمية، ولست بصدد مقارنة غير منطقية بين كتاب الصمان وبين كتاب الربع الخالي، فالأول نتاج مبادرة وجهد يذكر فيشكر لباحث واحد، والآخر عمل جماعي صادر عن جهة حكومية تملك من الصلات والقنوات والإمكانات والأدوات ما لا يتوافر للباحث المجتهد.
بالتأكيد كتاب الربع الخالي إضافة هامة في سجل البحوث الجغرافية والتحقيقات الميدانية، ويكتسب أهمية خاصة كونه يتناول منطقة انطبع في أذهاننا - بسبب فقر المصادر المتاحة عنها - أنها مجهولة، لكن سأقف عند قراءة مستقبلية أو بالأحرى نتائج سلبية متوقعة من انتشار هذا الكتاب، ولا أعتقد أن لهيئة المساحة الجيولوجية ذنب في وقوعها إلا إذا كنا سنحاسبها الآن على قيامها بدورها في تزويد المجتمع بالمعرفة والمعلومات عن المجالات التي تقع في دائرة واجباتها واهتماماتها.
لقد تزايد الاهتمام و "الولع" مؤخرا بهوايتي الصيد والرحلات البرية بين فئة مراهقة عابثة قلبت الصيد كموروث إلى قتل وتخريب وحوّلت الترحال إلى "كشتات تلويث وتدمير بيئي"، ومجازفات دون تقدير للعواقب. والدليل أن الصمان تلك الهضبة الغنية جدا بتنوعها الفطري قبل عقدين تكاد تكون خاوية الآن. هذا سينطبق في تقديري على الربع الخالي الذي لن يكون مجهولا بعد كتاب الراشد والعنيزان.. و...بعد تدشين الطريق المسفلت الرابط بين السعودية وسلطنة عمان عبر الربع الخالي. وقد يأتي من يقول: إن هذا التشاؤم لا مبرر له إذا افترضنا أن وزارة الزراعة والهيئة السعودية للحياة الفطرية والرئاسة العامة للأرصاد وحماية البيئة ووزارة الداخلية ستقوم بأدوارها على الوجه المطلوب وستتكامل جهودها و أنشطتها وستجد حلا سريعا وستقضي بين عشية وضحاها على كل مظاهر التخريب والعبث و التلويث التي لحقت وستلحق بالمكونات البيئية للمناطق الصحراوية بما فيها من الأحياء الفطرية, وستنجح وزارة الداخلية في ضبط المخالفات وتوعية أولئك المجازفين وستسيطر على سلوكياتهم.

أريد أن أتفاءل لكني أشفق على الدفاع المدني الذي ربما نشاهد فرقه الميدانية المتخصصة في البحث والإنقاذ وقد أعياها التردد في رحلات مكوكية لا تنقطع تلاحق المتهورين الهائمين بـ"ولّع الصيد" المفقودين و المتوفين عطشاً في الربع الخالي خاصة أولئك الذين سيتغافلون عن وعورة كثبانه الممتدة في بحر متلاطم من الرمال المهيبة التي ستغدر حتما بمن يتهاون في اتخاذ (كل) احتياطات السلامة وضوابطها.

يتبع الجز الثامن: 
رحلة إلى الربع الخالي..
الجنّيّة حَمْدَة وطبول الجنّ

الخميس، 25 ديسمبر 2014

رحلة إلى الربع الخالي (ج٦)

الجزء السادس: سلامة يصيد الغزلان في الصمان


كتب وصوّر: محمد اليوسفي


عندما كتبت الجزء الأول من هذه السلسلة، رسمت في ذهني ترتيبا موضوعيا لبقية الأجزاء بما فيها من أحداث وقصص وطرائف، بحيث تكون الأجزاء مكملة لبعضها، لكنني؛ في هذا الجزء، أخالف الترتيب كي أؤكد على أن هذه الرحلة ليس من أهدافها الصيد.لم يتبق حاليا في الأماكن المفتوحة من الربع الخالي من طرائد الصيد سوى الأرانب البرّيّة، ما زالت ترتع في مواقع عدة، فكلما بعد المكان وازدادت وعورته ووجدت فيه الشجيرات الدائمة مثل الأرطى والحاذ والشنان وبعض الأنواع النجيلية مثل نباتي النصي والثداء كلما رصدت آثار الأرانب نهارا وشاهدتها ليلا بكثرة. 

الصيد في الربع الخالي، إلى وقت غير بعيد، غير ممنوع بل متاح للجميع وإن كان حكرا على فئة (الشيوخ)، فعامة الناس؛ الذين لم يسكنوا الربع الخالي
، ليس بمقدورهم الصيد بسبب عدم امتلاك السيارات أو لعدم توافر أدوات الصيد فضلا عن أنه لم يكن يوجد إلا قلّة من الصيادين لديهم الجرأة على اقتحام الكثبان الغامضة وتجاوز وعورتها برفقة أدلاء يعينونهم على عدم التوهان ويساعدونهم على التنقل في مساحات شاسعة خالية من البشر وليس فيها طرق معبدة. لكن الحال الآن ليس كذلك. كثيرون جربوا الصيد في الربع الخالي وتناقلوا تجاربهم وخبراتهم، ثم بمساعدة الطفرة في سيارات الدفع الرباعي وأجهزة تحديد المواقع والفضاء الإنترنتي المفتوح أصبحت الخبرات والمعلومات متاحة لمن هب ودب. وإذا أردت التأكد، فدونك قوقل أو شبكات التواصل، ستطّلع على رحلات مصوّرة لغرض الصيد في الربع الخالي بواسطة البنادق والصقور وكلاب الصيد أجلكم الله. وللأسف أسمع أن من بين هؤلاء الصيادين أشخاص من فئات يفترض أن تكون بمنأى عن استمراء استغلال حالة وجود أنظمة وقوانين على الورق فقط دون تطبيقها. أتوقع إذا بقى الحال على ما هو عليه (الآن) فأن الأرانب البرية سوف تنحسر أعدادها في الربع الخالي سريعا وتلحق بالمها والغزلان وغيرها من الحيوانات المنقرضة. ولا عزاء لبيان الصيد الذي يؤكد، في كل سنة، قبيل موسم الصيد على: «يمنع الصيد بجميع أشكاله ووسائله في منطقة الربع الخالي».  
في الجزء الغربي من الربع الخالي، هناك بقية من قطعان الغزلان والمها العربي (الوضيحي) التي لم يشاهدها، تعيش في الطبيعة، أبناء جيلي والأجيال المتأخرة. في هذا الجزء وتحديدا في عروق بني معارض، وهي من أشد الكثبان وعورة، سأتحدث عن رجل في العقد الثامن من العمر اسمه سلامة بن منيف آل دمنان، نشأ محبا للصيد منذ صباه. سألته، وأنا أعرف ما يثير كوامن ما يسميه الصيادون «ولع الصيد»، بماذا تشعر لحظة اكتشاف أثر الطريدة مرسوما على الرمال. أجاب: كلما شاهدت أثر الجوازي تذكرت قصيدة قالها أحد رفاقي ونحن في مسرح الصيد وسط عروق الربع الخالي يوم كنا شبابا نقضي الأيام متنقلين على ظهور الجمال نطارد الغزلان حتى شمال الربع الخالي بل إلى الصمان حيث نصيدها وسط خباريه ورياضه، أتذكر الصديق يرحمه الله حين قال في رحلة صيد: 

بديت عرق وسميته مسلّي
جعل الوسام يتقدم له وياتيه
حيثه مرب الجوازي كل حلّي
يا زين شوف الوضيحي رتّع فيه
يا خوي طرد الجوازي ما يملّي
في تالي اليوم إلى انكب ذاريه

والآن كلما شاهدت وسط عروق بني معارض جميلة (الجميلة تعني مجموعة من الغزلان) أتحسّر على حادثة مطاردة ارتكبتها وأنا شاب قبل عشرات السنين مع رفاقي الصيادين حيث شاهدنا خمسة وعشرين غزالا في الصمان طاردناها وقتلناها خلال يوم واحد فقط، ولم يفلت منها -عندما حل الظلام- إلا عدد محدود لم يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، وربما إصبناها ونفقت.


وفي مقارنته بين الماضي والحاضر قال سلامة «صياد الغزلان» بعبارة مغلفة بالحسرة «لقد فقدنا غاليا، ولم يبق في صحارينا ما يثير البهجة أو المتعة بعد انقراض الغزلان وانعدام وجودها بحالتها الفطرية».

استطرد سلامة في حديث لا ينقصه الوعي يعيد أسباب الفتك بالغزلان إلى دخول السيارات للمنطقة وانتشارها وامتلاك البنادق المتطورة مع طغيان شهوة التفاخر والمباهاة التي استحكمت على سلوك الصيادين من أبناء الطبقة المترفة. وسرحت أنا مع استطراد سلامة متخيلا المشهد (واحدة من رياض الصمان ترتع فيها الغزلان). ربما لا نصدق أن بيننا كبار سن شاهدوا الغزلان والأحياء الجميلة في الصمان وغيره من براري المملكة ولم يصيدوا منها (غالبا) إلا ما يسد حاجتهم رغم معاناتهم من وطأة الفقر والمجاعات.
و الواقع أن الصورة مغايرة في العقود الأخيرة.

بقي لي في هذا الجزء الإشارة إلى أن سلامة بن منيف هذا الذي نتحدث معه في محمية عروق بني معارض صياد سابق أمضى فترة من عمره موظفا في الهيئة السعودية للحياة الفطرية في المحمية ضمن (الجوالين) وهم أشبه برجال أمن مهمتهم حراسة المحميات الطبيعية.
 
يتبع:
رحلة إلى الربع الخالي
الجزء السابع: اقتحام المجهول بكتاب

رحلة إلى الربع الخالي (ج٥)

مفاهيم عامية فصيحة ٢


كتب وصوّر: محمد اليوسفي

 
في الجزء السابق من هذا الرحلة ذكرت كلمات عامية تطلق على أشكال الكثبان الرملية، وبينت اعتمادا على معاجم العربية أن بعضها فصيح الأصل، ومنها الطعس والعِرْق والخِبة والقَصيم والدّكَاكَة وغيرها. سأتناول في هذا الجزء كلمات أو مفاهيم أخرى هي النِّقَا والقُوْز، والقْعَدة، واللُّغْف، والعَثْعَث، والنّقْرة، والحُقْنَة، والهَيَال، والسّيف. وقبل ذلك أشير إلى كلمة الجَلَد التي تستخدم حاليا بين مرتادي المناطق البرية بمعنى (السير على الطرق البرية غير المسفلتة) بينما تعرف الجِلِدة أو الجَلَد قبل وجود الإسفلت بأنها الأرض الصلبة الواسعة المنبسطة المميزة بسهولة طرقها، ويوجد في الربع الخالي أرض بهذه الصفة تقع في وسط جزئه الغربي تسمى الجِلِدة، وهذه من الكلمات العامية الفصيحة، فالشائع أن الجَلَد تعني القوة والشدّة الصلابة، وفضلا عن ذلك إذا قيل - نقلا عن لسان العرب - هذه أرض جَلْدَة ومكان جَلَدَة ومكان جَلَد، والجمع جَلَدات فالمعنى أنها أرض صلبة مستوية المتن غليظة. بالمناسبة ثمة معنى آخر فصيح لهذه الكلمة فالجَلَد هو جِلْد البَوّ (جلد حوار الإبل النافق) الذي يحشى بالأعشاب ويخيل به للناقة فتحسبه ولدها إذا شمّته فتدر الحليب.

والنِّقَا والقُوْز كلتاهما تعني كثيب رمل مرتفع، لكن ثمة من يفرق بينهما
، فالنقا أشبه بجبل لكنه من الرمال، أي أنه يكون مستدق في الأعلى، أما القوز فيكون مستديرا في الأعلى. والكلمتان فصيحتان إذ قال ابن منظور: والنَّقا من الرَّمْل: القطعة تنقاد محدودبة، والجمع: أنْقاء ونُقِيّ. أما القَوْز فهو المستدير من الرّمل و الكثيب المشرف، وجمعه: أقْوَاز وقِيزان وأقاويز وأقاوِز.

أما القْعَدة: والجمع قَعَد، فهو تكوين الرمل مشابه للنقا في مسقطه الأفقي لكنه في الربع الخالي ينصرف إلى تلك التشكيلات المتشابهة والمتفرقة عن بعضها وسط الأراضي الملحية أو الجيرية أو الحصوية، وأحيانا تكون متقاربة ومعقدة. وأكثر ما تعرف هذه الأشكال في المصادر المتخصصة باسم الكثبان النجمية حيث يتفرع عن المرتفع الرئيس ألسنة من الرمال تبدو من أعلى متخذة أشكال نجمية. وكلمة القعدة عامية ربما يكون أصلها من القعود، إذا تبدو هذه التشكيلات وسط السباخ والأرض المنبسطة الواسعة (المستوية) كأنها قاعدة في صفوف متناسقة، وقد يكون الأصل من كلمة العَقَد وحرّفها العوام إلى القَعَد. وكلمة العَقَد فصيحة تطلق على ما تعقّد من الرمال.

واللغف كلمة عامية يقصد بها انحناء أو جانب العرق من الرمل. ولم أعثر في مصادر اللغة على معنى مشابه لذلك من جذر (لغف)، وفي الفصحى إذا قيل لغف فالمعنى لعق.

والعَثْعَث من الكلمات المستخدمة عند أبناء البادية ويقصد بها سطح الأرض اللينة المغطى بالأعشاب المزهرة، وهذه كلمة فصيحة إذ قال صاحب اللسان: إنها (ظهر الكثيب الذي لا نبات فيه. والعَثْعَثَة: اللَّيّن من الأرض، وقيل: العَثْعَث الكثيب السّهل أنبت أو لم ينبت، وقيل: هو الذي لا ينبت خاصة).

والنِّقْرة
، و كذلك الحُقْنَة أو الحِقْنَة (سواء بضم الحاء أو بكسرها على اختلاف اللهجة)، كلتاهما تعني منخفض وسط الرمال، ويكون انخفاضه حادا من جميع الاتجاهات. وبحسب سماعي فإن كلمة حقنة متداولة بين سكان بادية الربع الخالي يرادفها كلمة النّقرة في الدهناء والنفود الكبير. وبعض النُّقر أو الحقن خطيرة جدا إذا هوت وسطها السيارة، فقد ترتكز ويصعب سحبها، وإذا استقرت الإبل في اسفلها فلا تستطيع الخروج منها. وفي الربع الخالي يوجد حقن تتخذ شكلا مخروطيا، ويعرفها سكان البادية ويتجنبونها بسبب خطورتها.

ومما يشيع بين من يرتادون الكثبان الرملية سواء في الربع الخالي أو غيره
، كلمة أو مصطلح الهَيَال: ويقصد الجانب المنحدر بشدة الذي تنهال منه الرمال، وهو غالبا الجانب المعاكس لاتجاه الرياح السائدة، وهذه كلمة فصيحة خالصة، فالهَيال، والهَيْلان في لسان العرب: ما انهال من الرّمل. ويصعب على الانسان والحيوان والسيارة اجتياز الهيال، وأحيانا يكون له حافة مرتفعة تسمى السيف. والهيال هو التكوين الذي يعزى إليه ما كانت تسميه العرب عزيف الجن، أو عزيف الرمال، وهو صوت عجيب يحدث في ظروف معينة، وقد استرعى انتباه بعض الرحالة الغربيين الذين عبروا الربع الخالي، وسوف أخصص جزءا لاحقا من هذه الرحلة للحديث عن هذا العزيف الذي يعرف عند بعضهم بـ(طبول الجنّ), وذلك في معرض الحديث عن قصة (الجنية حَمْدَة)

والسيف في وصف تشكيلات الرمال كلمة تستخدم عند العامة وتعني قمة الرمال المرتفعة عندما يكون لها جانبان حادان في الانحدار، ويُشبّه أعلاها بحد السيف. ويرادف هذه الكلمة في بعض المصادر المتخصصة كلمة فصيحة هي الذَّلَق والذالق، فذَلْق كل شيء يعني حَدّه. وسيوف الرمال من التشكيلات التي يصعب على الإبل اجتيازها، كما أن مهارة قائد السيارة مهما بلغت لا تسعفه غالبا في تجاوز حدّ السيف، وقد يؤدي التهور في القيادة وسط سيوف الرمال إلى انقلاب السيارة. وأكتفي بهذا القدر من المصطلحات.

يتبع:
 رحلة إلى الربع الخالي
(الجزء السادس: سلامة يصيد الغزلان في الصمان)

رحلة إلى الربع الخالي (ج٤)

الجزء الرابع: مفاهيم عامية فصيحة ۱


كتب وصوّر: محمد اليوسفي


هذا الجزء الرابع، سيتبعه أجزاء أخرى أتناول فيها تفاصيل رحلة في الربع الخالي لا تخلو من المتناقضات والطرائف بل والغرائب، وسوف آتي عليها، لكن لأسباب موضوعية سأخصص هذا الجزء والجزء الذي بعده لأسماء أشكال وتكوينات الرمال ومعانيها. فهناك عدة مصطلحات لوصف تشكيلات الكثبان الرملية يشيع استخدامها بين عامة الناس خصوصا الذين ينتفعون من المنطقة في رعي الماشية ويتعايشون مع بيئاتها سواء كان ذلك في الربع الخالي أو الدهناء أو النفود الكبير أوغيرها من رمال المملكة.

وتبدو بعض المصطلحات بسبب استخدامها بين العوام كأنها عامية بينما يدلّ البحث عنها في معاجم اللغة على أنها فصيحة خالصة. وهنا أشير إلى أن أبرز وأول الكتب الحديثة التي اهتمت بتوثيق التعريف بمصطلحات الكثبان الرملية كتاب بحار الرمال في المملكة العربية السعودية للأستاذ الدكتور عبدالله بن ناصر الوليعي حيث أفردها في ملحق بعنوان المصطلحات المحلية للأشكال الرملية، وأتى بعده الشيخ عبدالله بن خميس - رحمه الله- حيث ذكر بعضا منها في مقدمة كتابه رمال الجزيرة (الربع الخالي)، ثم، بتوسع، تناولتها موسوعة الثقافة التقليدية في المملكة العربية السعودية وتحديدا في جزئها السابع الخاص بالمعارف الجغرافية في فصل بعنوان الرمال. هذا كله قبل أن يصدر أخيرا عن هيئة المساحة الجيولوجية السعودية كتاب ثري بعنوان (الربع الخالي: بحر الرمال العظيم)
، لمؤلفيه محمد بن أحمد الراشد وعبدالله بن صالح العنيزان، وسوف أستعرض هذا الكتاب في جزء لاحق من هذه السلسة من زاوية هاجس شخصي عن خطر أتوقع أننا (حاليا) على مشارفه إذا دُشّن الطريق البرّي الذي يربط السعودية مع سلطنة عمان عبر الربع الخالي، فقد تقع (فئة) من الهواة المتهورين ضحايا إذا اتخذوا معلومات وخرائط هذا الكتاب مطية لاقتحام الكثبان وتجاهلوا ضوابط هامة جدا قبل الإقدام على المجازفة.

وأشير هنا إلى أن ما سأذكره في هذا الجزء (المصطلحات) سيكون خلاصة موجزة تعتمد على ما ورد في هذه المصادر مع ما جاء في معاجم العربية وأبرزها لسان العرب والقاموس المحيط ومقاييس اللغة.

أول المصطلحات ذات الارتباط بالربع الخالي كلمة فصيحة ذات دلالة تاريخية إذ سُمّي قديما الجزء الجنوبي منه بالأحقاف، ومفردها حِقْف، وفي القرآن الكريم سورة الأحقاف. والحقف - في لسان العرب - تجمع على أحْقاف وحقوف وحِقاف وحِقَفة، وهو ما اعْوَج من الرمل واستطال، قال الشاعر:

كأن عَزِيف الجِنّ في فَلَواتها
دُفُوف تَغَنّتْ للندامى بها الزُّط
إذا ما قطعنا حِقْفَ رَمْلٍ بَدا لنا
على إثره حِقْف من الرّمل أو سِقْط

فالشاعر خلال مسيره وسط ألسنة من الرمال المعوجة يشبه صوت أو عزيف الرمال - وهو ما كانت العرب تسميه (عزيف الجن) - بأصوات الطبول وغناء أعاجم (الزّط)، وسوف أخصص جزء (أنشره لاحقا) لما سمي بعزيف الجن أو طبول الجن في قصة الجنية حَمْدَة التي قيل انها تعترض المسافرين السائرين في الطريق الذي يربط مدينة نجران بمحافظة شرورة مخترقا أجزاء من الربع الخالي.

أكثر ما يعرف عامة الناس من المفاهيم التي تطلق على أشكال الكثبان الرملية كلمة (طِعْس، وجمعها طعوس أو أطعاس) وهي عامية أتت من كلمة فصيحة هي الدِّعص التي تعني قطعة من الرّمل مستديرة أو الكَثِيب منه المجتمع أو الصغير، ويكون الدِّعص أقل من الحِقْف، وتجمع هذه الكلمة على دِعَص وأدْعاص ودِعَصَة. ويعرف الطعس كمصطلح بأنه كثيب مجتمع من الرمل يكون مرتفعا بالتدريج في جانبه المواجه لاتجاه الرياح السائدة ويسمى هذا الجانب (الظهر)، أما الجانب الآخر فيسمى (اللهد) الذي يكون منحدرا بشدة بسبب أنه معاكس لاتجاه هبوب الرياح.

ومن المصطلحات التي توصف بها تشكيلات الرمال (العِرْق)، بكسرالعين وتسكين الراء، وجمعها عروق، وتعني عند العوام مرتفعات من الرمل ممتدة بنسق واحد، والمرادف لهذا الكلمة في معاجم اللغة العربية «حَبْل الرمل» والجمع حبال، وتستخدم كلمة العرق في الخرائط الطبوغرافية. وفي الربع الخالي هناك عروق بني معارض وعروق بني حمران وعروق الأوارك والعروق المعترضه. وإذا كان العرق(حبل الرمال) قصيرا يقال تصغيرا عريق.

وثمة عدة كلمات مترادفة المعنى، هي الخِبّ والخِبَّة والشِّقَة والشقيقة والفَلْق، وكلها أسماء تطلق على الأرض التي تقع بين حبلين «عرقين»، وغالبا لا تخلو هذا التكوينات من جواد القوافل والسيارات لأنها منخفضة مستوية غير وعرة. ويستخدم أبناء منطقة الربع الخالي لوصف هذا الشكل كلمة الشِّقَة، أما في الدهناء والنفود الكبير فتستخدم كلمة الخبة أو الفلق، وستجد كلمة الشقة في خرائط الربع الخالي. وتستخدم أحيانا الخبب أو الشقق القريبة من التجمعات السكانية في الزراعة بسبب قرب الماء من سطحها.

ومن المصطلحات المستخدمة بين أبناء البادية قولهم الصيهد والجمع صياهد وهي الأرض من الرمل تكون شبه مستوية وتضم الرمال الخشنة، وهي أيضا الأرض المنبسطة والمنخفضة عن المرتفعات الرملية. وتقل الشجيرات في الصياهد بينما تكثر فيها الأعشاب الحولية ولذلك تعد من الأراضي الرعوية التي يقصدها أصحاب الإبل في فصل الربيع. وكلمة الصَّيْهَد فصيحة لكنها تعني شِدّة الحَرّ، وقديما كان يطلق على جزء من الربع الخالي اسم صحراء صيهد.

أختم هذا الجزء بمصطلحات العَثَامير والدّكَاكَة والقَصِيمَة أو القصيم، فالعثمور وجمعها عثامير هي مناطق يقل فيها الرمل وتتميز بالوعورة بسبب وجود شجيرات تصدّ الرمال متكومة خلفها في الاتجاه المعاكس لهبوب الرياح، وهذا التكوين «العثامير» من البيئات التي تتخذها الزواحف - خاصة الثعابين - مأوى لها. ولم أجد أصلا فصيحا للكلمة مما يدل على هذا المعنى. والعُثْمُرَة في اللغة العربية هوالعِنَب الذي امتص ماؤه وبقي قشره.

أما الدّكَاكة فهي الرمل المنبسط الممتد على مساحة واسعة نسبيا، ويكون منبتا للشجيرات الصغيرة. والكلمة بهذا اللفظ عامية أصلها فصيح من الدّكُ والدّكَّة وتعني: ما استوى من الرمل وسهل، وجمعها دِكَاك، وأما القَصِيمَة وجمعها القصيم «فصيحة» تعني جزء من الرمال المتداخلة والمتفاوتة في الارتفاع والانخفاض التي «ينبت فيها شجر الغضا»، والمقصود هنا تعريف الكلمة كمصطلح لوصف تكوين من الرمال وليس القصيم المنطقة المعروفة في وسط المملكة.

يتبع: 
رحلة إلى الربع الخالي
(الجزء الخامس: مفاهيم عامية فصيحة ۲)

رحلة إلى الربع الخالي (ج۳)

سقوط الكنز


كتب وصوّر: محمد اليوسفي


كانت مواقع ومنتديات الإنترنت والمجموعات البريدية؛ قبل أن تستفحل سلبيات شبكات التواصل، تتقاذف صورة فوتوغرافية، ثم أعيد تصديرها مؤخرا عبر شبكات التواصل، فما أن ينسى الناس هذه الصورة بعد موجة تداول حتى يعود بعضهم مبهورا إلى تكرار نشرها والحديث أو السؤال عنها من جديد، حتى أنك لو جربت أن تكتب (الآن) في الباحث الإنترنتي قوقل ( هيكل قـ.. ) فسيكمل (قوم عاد)، وسيظهر لك آلاف النتائج لهذه الصورة، وهي لهيكل بشري ضخم يقف بجوار جمجمته إنسان يبدو بحجم ضئيل جدا مقارنة بالهيكل، ولقد زعم مروجوا الصورة أنها التقطت بالطائرة لموقع في الربع الخالي اكتشفته شركة أرامكو، وقيل ان ذلك بقايا هيكل عظمي يعود إلى عهد قوم عاد! وهؤلاء القوم وملكهم شداد بن عاد أتيت على ذكرهم في الجزء السابق من هذا المقال في معرض شرح المثل الشعبي (هذا من ثمدا ثمود وبنية العمود).

أما حقيقة الصورة فهي عمل فني لواحد من هواة التلاعب بالصور بواسطة برامج معالجتها وتعديلها وتزييفها، تقدم بها ضمن مسابقة نظمها أحد مواقع الصور. وقد أتى من نقلها ودلّس بإضفاء بعد تاريخي على الصورة وانطلى التزييف بأنها لهيكل عظمي من بقايا عمالقة سكنوا الربع الخالي في عصور بائدة. لا أجد فارقا كبيرا في الافتراء والتدليس بين حكاية هذه الصورة وبين حكاية كنوز مدينة عاد وقصورها المدفونة تحت رمال جنوب الجزيرة العربية، حكاية عربية الجذور أعاد تصديرها إلينا بعض الرحالة الأوروبيين الذين عبروا الربع الخالي.
أحد أشهر عابري الربع الخالي البريطاني ولفرد ثيسجر أو مبارك بن لندن، والأخير اسم أو لقب أطلقه عليه مرافقوه في الرحلة، وهم أفراد من قبائل تسكن جنوبي الربع الخالي.. لم يتسن لابن لندن في أكثر من رحلة خلال الفترة من 1945 إلى 1950م، ولا للرحالة الذين لبسوا غطاء التعلق بسحر الشرق واستكشاف غموض الصحراء.. أن يشبعوا فضولهم ويتمّوا تجوالهم ورصدهم وبحثهم ويحققوا -على ظهور الجمال- مآربهم الأخرى إلا بمساعدة الأدلاء المرافقين وغيرهم الذين أسمعوهم حكاية المدينة التاريخية. لما قطع ابن لندن شوطا في رحلة من الجنوب إلى الشمال في الجزء الغربي من الربع الخالي وأشرف على بئر المنخلي (المنخلي حاليا مركز يتبع إمارة نجران) نجده يدوّن في كتابه الرمال العربية إشارة إلى مقولة يرددها أبناء المنطقة، حيث يعتقدون أن هذه آبار لقوم عاد، وأن مدينتهم مفقودة تحت هذه الرمال وإن اختلفوا في التحديد الدقيق للمكان. تلك المدينة التي ذَكرتها بعض كتب البلدانيات ومصادر التراث العربي بأوصاف أقرب إلى قصص وأساطير ألف ليلة وليلة.
وقبل ابن لندن أتى برترام توماس، وهو أول رحال غربي يعبر الربع الخالي ( عام 1931م) نقل عن مرافقيه اشارة إلى مكان آخر تغوص تحته المدينة الكنز المسماة وبار. وبين توماس وابن لندن حث الخطى جون فيلبي أو عبدالله فيلبي بعد اسلامه، يقطع عروق الرمال في عام 1932م، تدفعه نتائج تحرياته ويغريه ما كان قد سمعه من مرافقيه من أبناء قبيلة من شمالي الربع الخالي في أقوال متضاربة عن مدينة عظيمة وسط الكثبان تضم قصورا، وحصونا، وقلاعا، وحدّثوه عن الحديدة التي تضم آثارا ظاهرة يعتقدون أنها بقايا مدينة وبار، ومن آثارها كتلة حديد كالجمل.
وبعد جهد وعناء وتجوال ومشقة وبحث، وقف فيلبي على كثيب يشرف على ثلاث فوهات أو حفر كبيرة، وبدت له الحقيقة، حيث قال في كتاب له بعنوان الربع الخالي: (لم أدرِ ماذا أفعل؟!: هل أبكي أم أضحك، مع أن المنظر نفسه قد شدني وأسرني تماما.. المنظر الذي بدد أحلام السنين! فهذه هي وبار!… لم يدر بخلدي أن يكون حل لغز الرمال العظيمة بهذه الإثارة. وكان عدد من رفاقي شرعوا ينقبون الأنقاض بحثا عن الكنوز، وبينما كنت أهبط المنحدر متجها نحو الفوهة الأولى أتى رفاقي مسرعين نحوي يحملون كتلة من الحديد وشظايا صغيرة اعتقدوا أنها لآلئ زوجات الملك عاد).

والحقيقة أن فيلبي وقف في قلب الربع الخالي، في مكان بعيد يقع على مسافة أفقية تقدر بما يزيد قليلا على الخمسمائة كيلومتر باتجاه الجنوب الشرقي من الرياض، وسجل اسمه مكتشفا آثار نيزك هائل ارتطم في هذه البقعة، فهو أمام ثلاث فوهات أو حفر أحدثها الارتطام تتفاوت سعتها فيما بين 116 مترا و 64 مترا و11 مترا. وأشارت المسوحات التي أجريت فيما بعد أن ارتفاع حواف الحفر بعد أن كان عام 1932م حوالي 12 مترا، صار 8 أمتار في 1961م، ثم 3 أمتارفي 1982م، أما حاليا فقد اندفنت الحفر تماما، وقد اسفرت الدراسات عن أن النيزك هبط من السماء قبل ثلاثمائة عام تقريبا، وأن سقوطه كان بشكل مائل فأدى ذلك إلى تكسره في الهواء قبل وصوله إلى الأرض إلى عدة قطع. ويعرف المكان حاليا عند الهواة باسم نيزك الحديدة بينما في المصادر المتخصصة يعرف باسم نيزك وبار، ولم يبق من آثاره إلا شواهد صغيرة متناثرة من حديد النيزك والرمل المنصهر من شدة حرارة النيزك عند سقوطه، أما قطعة الحديد التي شبهوها بالجمل فهي (حاليا) من ممتلكات متحف الملك عبدالعزيز بالرياض.
 يتبع:
رحلة إلى الربع الخالي
(الجزء الرابع: مفاهيم عامية فصيحة ١)

الأربعاء، 24 ديسمبر 2014

رحلة إلى الربع الخالي (ج۲)

ثمدا ثمود وبَنْيَة العمود


كتب وصوّر: محمد اليوسفي


من قديم الشعر الشعبي قيل في الحكمة:

يبيد الفتى ما بين يوم وليلة
يبيد وهو ما يحسب انه باد
الأيام ابادنّي وابادن هجرس
وابادن شداد ابن عاد وباد



وقيل ان سكان البادية (قديما) كانوا يقولون للمبالغة في قدم زمن الشيء المثل الشعبي (هذا من ثمدا ثمود وبَنْيَة العمود)، ومعنى المثل أن ذلك الشيء غير جديد بل قائم منذ زمن بعيد يرمز له المثل برمزين أو عهدين بائدين، الأول عهد ثمود، وهؤلاء هم قوم نبينا صالح عليه الصلاة والسلام من العرب البائدة كانت في الحجر شمالي المدينة المنورة فيما يعرف حاليا بمدائن صالح، والآخر (بنية العمود) وفيما يبدو أن المقصود بهذا عهد قوم عاد الذين أبادهم الخالق تعالى بريح مهلكة. فتشير بنية العمود، أي بناء العمود، إلى إرم ذات العماد. وقد قال بعض المفسرين إن إرم هذه مدينة. وفي بعض مصادر التراث العربي يروى أن ملك القوم، وهو شداد بن عاد، أمر ببنائها، وكانت تقع فيما يعرف قديما بالأحقاف جنوبي جزيرة العرب. والأحقاف في اللغة، ومفردها الحقف، الرمال عموما، أو ما اعوج واستطال منها.
بعد هذه المقدمة، أشير إلى أنني بصدد كتابة الجزء الثاني الذي سيتبعه أجزاء أخرى عن رحلة في الربع الخالي، وكنت طرحت في الجزء الأول الآراء التي قيلت حول سبب إطلاق اسم (الربع الخالي) على الجزء الجنوبي الشرقي من شبه الجزيرة العربية، فذكرت ما ورد في مصادر التراث العربي، وأشرت إلى ما يشيع بين الباحثين ويرجحونه أن منشأ الاسم جاء مما وجد في كتب الرحالين والمستشرقين المتأخرين الذين اطلقوا على هذا المكان اسم (The Empty Quarter)، والتسمية بذلك جاءت لأن هذه الصحراء المتصلة تغطي ربع مساحة شبه الجزيرة العربية إلى جانب أنها خالية من مظاهر الحياة البشرية بسبب قلة مواردها الطبيعية ووعورة طبيعتها التي يصعب معها التنقل في أرجائها وبالتالي ندرة وجود البشر معظم فصول السنة، وذكرت أيضا إن أبناء القبائل التي كانت تنتفع من هذا المكان فتقصده لرعي الإبل كانوا وما زالوا يطلقون على الربع الخالي اسم الرملة. كما تناولت قولا جنح إلى إعادة أصل التسمية إلى ما جاء في قصص ألف ليلة وليلة، حيث يأتي في سياق بعض قصص شهرزاد، وصف لأرض نائية موحشة خالية من النباتات والحياة تسمّى (الربع الخراب).

ألف ليلة وليلة عمل أدبي قائم على خيال تلفه الأساطير الممزوجة بخرافات وخوارق وعفاريت منهم أبو السعادات ذاك الذي (يعترف) في آخر قصص شهرزاد أنه قدم من عصور سحيقة حيث كان خازنا لكنوز شداد بن عاد صاحب مدينة إرم ذات (العماد) التي قيل عنها في المرويات إنها مطمورة تحت الرمال في الأحقاف بكنوزها وأعمدتها المبنية من المعادن النفيسة والمرصعة بالأحجار الكريمة وسط بيئة غنية بالأنهار والنخيل والأشجار حسبما دُوّن في بعض كتب ومصادر التراث العربي بصورة تقترب من الوصف الاسطوري، ولعل هذاالوصف؛ مع دوافع التجسس وكتابة التقارير الاستخباراتية عن المنطقة وطبيعتها، من الأسباب التي أثارت شهوة بعض الرحالة الغربيين ممن عبروا الربع الخالي في القرون الأخيرة فدفعتهم الرغبة في العثور على شيء من الآثار والكنوزها إلى المجازفة في التجوال بحثا وتنقيبا وسط كثبان كضخامة الجبال ووعرة المسالك وملغمة بجماعات من القبائل البدوية لاينظر الغربيون إلى أفرادها إلا والذئاب وجهان لعملة واحدة.
إذا تجاوز الباحث نظريات الجيولوجيين فيما يتعلق بكيفية تكون تلك الرمال في الربع الخالي، والخوض في طرح جدليات تاريخية حول طبيعة الحضارات التي سادت ثم بادت في الأحقاف أو وبار، فإن ثمة تحفظا لدى العلماء والمفسرين على تلك الأوصاف الأسطورية لإرم وعلى البيئة الطبيعية الغنية المحيطة بها بالصفة التي تذكرها بعض مصادرالتراث العربي.
أعود إلى مقدمة الموضوع في الجزء السابق حيث ذكرت أن الربع الخالي كلمة ما أن تتردد بين العامة حتى تنطبع صورة ذهنية تنطوي على المبالغة والتهويل في تقدير ارتباطها بالجن، وهذه الصورة ليست بناء ذهنيا جديدا في خيال أبناء الصحراء ممن ارتادوا الربع الخالي وسكنوه مؤخرا، بل هي صورة ممتدة الجذور فالعرب تزعم قديما أن أرض وبار (الربع الخالي) سكانها جن، ولا يدخلها إنسيّ، وإن دخلها ساهياً أو متعمداً حثوا في وجهه التراب، فإن أبى إلا الدخول خبلوه أو قتلوه أو ضل فيها ولا يعرف له خبر. وهذا الزعم ومثله مرويات اسطورية تضمها بعض المصادر التاريخية عن وبار أو الربع الخالي هي -على حد وصف العلماء- افتراءات مردودة عند العقلاء.

يتبع:
رحلة إلى الربع الخالي
(الجزء الثالث: سقوط الكنز)