الحارس حصان إبليس
كتب وصوّر: محمد اليوسفي
أنتقل إلى اللطائف والطرائف، وأبدأ بصالح أحد الرفاق في الرحلة، رجل دائم
الابتسامة بشوش وخجول لا يُسمع له صوت، وهو من أولئك القلة الذين ينأون عن طقوس التنزه
والاستمتاع بالرحلة على حساب خدمة المرافقين وعن طيب نفس، فصالح يجد راحته ومتعته في
البقاء داخل المخيم يعد الوجبات ويلبي الحاجات بلا كلل أو ملل، ويساعده في ذلك تمتعه
بمزايا خاصة تجعله باستمرار محط أنظار الجميع إذا تطلب الأمر الخبرة في شأن ما، فمن
المهارة في قيادة السيارة وسط معترك كثبان متلاطمة من الرمال إلى معرفة التفاصيل في
ميكانيكا السيارات وأعطالها والتجهيزات اللازمة للرحلة وليس انتهاء بحسن إدارته للاستعدادات
التموينية. صالح يذكرني «بشقردي» آخر من هواة الصيد حفظت عنه أبيات للشاعر حمد السعيد
من تكراره لترديدها، فكلما توقفنا للراحة وإعداد الوجبات أنشد:
ربع نشاما بالمواقف رجاجيل
والا الرّدي معنا شحيح محله
وقت المغدّا كل ابوهم شواغيل
ما احد حسب خدمة خويه مذلّه
كبيرهم لا دار ببيض الفناجيل
من خف روحه بينهم زان دلّه
تأكدت أن صالحا كان - طوال ليالي الرحلة - آخر من يهجع بعد أن ينام الجميع،
وهو أيضا أول من يستيقظ قبيل الفجر مستقبلا يوما حافلا بالنشاط وأحيانا بالإجهاد. في
إحدى الليالي أخّرت عن قصد الموعد المعتاد لنومي، والتأخير هنا يعني أنني لم أنم بعد
أن تجاوز الوقت الساعة التاسعة، سألته عن سرّ بقائه مستيقظا رغم أنه أكثرنا نشاطا في
النهار وأحوج منا إلى الراحة والنوم الباكر، أخبرني أن ذلك طبع، فقد تعوّد على أن ينام
في الأخير ويستيقظ في البداية، ولعل هذا الطبع؛ خلال المبيت في الربع الخالي، لدى من
هم على شاكلة صالح في تحمّل المسئولية ينشأ عن هاجس أمني في هذه الصحراء النائية؛ التي
لم يكن بعضهم يعرف عنها - قبل سنين - سوى أنها مسرح للمتسللين الذين يغدرون بالصيادين
ممن يغامرون في الوصول بسيارات دفع رباعي حديثة تثير أطماع هؤلاء وتدفعهم للسطو. وقد
يعود الهاجس إلى (الحَزَابَة) أو الحرص الشديد والمبالغة في تقدير أدق الحسابات لأبسط
الأشياء. لكن الحقيقة أن التحوط والأخذ بالاعتبارات الأمنية ينبغي أن يكون هاجسا ملحّا
كلما قل عدد السيارات والأشخاص الذاهبين في رحلة طويلة إلى مناطق صحراوية بعيدة عن
التجمعات السكانية, ومنها الربع الخالي.
لم أجد داعيا؛ في تلك الليلة، للاستطراد مع صالح في هذا الموضوع، فالهواجس
والاحتياطات الأمنية بعد موضوعي الجنّ والثعابين ثالوث تدور حوله حكايات ذات شجون في
ليالي البرّيّة، وهي حكايات تنطوي أحيانا على المبالغات والمتناقضات (والأكشن) فيتشعب
الحديث ويمتد ساعات على حساب النوم والراحة. قبل أن نتفرق ويذهب كل منا إلى فراشه لمحت
حشرة طويلة تشبه نوعا من الجراد النطاط يسميه أهل نجد حصان إبليس. قلت لصالح مداعبا
خذ هذا (الحارس) الشخصي لفراشك بعد أن ألتقط له صورة فوتوغرافية، فسوف يدفع عنك أثناء
النوم العقارب والعناكب السامة والحشرات الأخرى ويفترسها دون أن يؤذيك.
طلبت من صالح أن يسلط إضاءة المصباح اليدوي على هذه الحشرة الوديعة ويراقبها
ريثما أحضر الكاميرة. كنت أصور وصالح يسأل كيف تكون حشرة بحجم الجراد الصحراوي حارسا
شخصيا؟
قلت: سأجيبك ولكن إليك أولا معلومات تفسر سر استخدامه حارسا ليليا، فهذا
نوع من المفصليات يعرف في المصادر المتخصصة باسم السرعوف، ويسمى عند العوام فرس النبي،
والاسم الأخير له جذور إغريقية حيث يسمى النبي، لأنه عادة يقف منتصبا ويطبق أطرافه
الأمامية على بعضها كأنه يصلي. وفي بعض الدول العربية يسمى جمل الرسول، ويسميه بعضهم
في نجد خطأ (حصان إبليس)، والاسم الأخير يطلق على نوع من الجراد النطاط آكل للأعشاب،
وليس هذا السرعوف المفترس الذي يوجد له أنواع صغيرة وكبيرة، وقد يصل طول الكبير إلى
عشرة سنتيمترات، ولا يظهر هذا الحارس غالبا إلا في الصيف، وربما كان لدفء الأجواء في
الربع الخالي دور في أن نجده تلك الليلة، فقد بلغت درجة الحرارة ونحن في شهر فبراير
31 درجة في ظهيرة أحد أيام الرحلة.
ويوجد فرس النبي غالبا على الأرض، ويبقى أحيانا على الأشجار المشابهة
للونه متخفيا عدة أيام، ولا يستخدم الأجنحة للطيران إلا في حالات نادرة. وهذا نوع بلون
أخضر (الصورة) يتميز بقدرته على مد أطرافه الأمامية منطبقة أمامه، ويتغذى بالحشرات
التي تضرّ الإنسان، ويساعده في الافتراس فك قوي يواجه به دون خوف العناكب والعقارب
ويقتلها. ومع ذلك لو جربت التعامل معه فهو وديع، وإذا وضعته على راحة يدك ومددت له
طعامه يتجاوب بهدوء ويأكل من يدك، كما يمكن - وهنا مربط الفرس - الاستفادة منه بواسطة
ربطه بخيط دقيق بطول لا يتجاوز محيط فراشك كي يبقى جوارك أثناء النوم في الصحراء ليعمل
حارسا أمينا فيقف بالمرصاد لبقية الحشرات الأخرى خاصة العقارب والعناكب ويفترسها فيكفيك
شرّ أذيتها المحتملة. وواقع الأمر أن في الصحراء أسرار كثيرة للتعايش مع بيئتها ومكوناتها
وقسوتها ومخاطرها.
يتبع الجزء (۱۱):
رحلة إلى الربع الخالي..
السمك (المقوي) يسبح في
الرمال!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق