الثلاثاء، 30 ديسمبر 2014

رحلة إلى الربع الخالي (ج۱٥ والأخير)

المَرّيّ يكشف أسرار قصّ الأثر


كتب و صوّر: محمد اليوسفي

كتبت في الجزء السابق من هذه الرحلة أنه بصرف النظر عن الاختلافات حول ما إذا كانت قدرة (المرّي) على قص الأثر تأتي من تلقي علم له أساسياته ومنهجه أو إلهام أو مهارة أو موهبة أو تخمين وحدس يعتمد على التعايش والتعامل مع البيئة وطبيعة البشر والأرض والحيوان والنبات؛ وبخاصة في منطقة كثبان رملية كالربع الخالي، ومن ثم الربط فيما بين القرائن التي تفضي إلى استنتاجات موصلة إلى الحقائق، بصرف النظر عن ذلك، فإن قبيلة آل مرة تعد واحدة من أشهر القبائل التي عرف عن بعض أبنائها قدرتهم على قص الأثر  وتتبعه إلى درجة أن الناس ذهبوا في الاصطلاح الشعبي إلى تسمية قصاص الأثر الماهر بـ(المَرّي) حتى لو كان من قبيلة أخرى. 

  • سألت عبدالهادي العرق المري.. صاحب رسالة ماجستير عن فئة قصاصي الأثر.. هناك زعم غريب بين "عامة الناس" يفسرون فيه براعة أبناء آل مرة في قص الأثر، فما هو؟
أجاب: = أظنك تقصد ما يردده بعض أبناء البادية قديما، حيث يقولون إن أم أو جدة آل مرة (من الجن) في تفسيرهم لبراعة كثير من أبناء القبيلة في قص الأثر، لكن هذا الزعم بالتأكيد ينم عن الجهل في التفسير الصحيح وهو أن معظم أبناء آل مرة كانوا يسكنون في الربع الخالي أو أراض رملية مشابهة تتميز بأن آثار أي كائن يطأ عليها ستنطبع بشكل واضح حتى لو كان لأصغر الحشرات، ولهذا حتمت ظروف التعايش مع البيئة أن يكونوا مميزين في معرفة الأثر وتتبعه. 

  • وهل تعني أن من لم يسكن في المناطق الرملية لن يستطيع معرفة الأثر وتتبعه؟
= إلى حد ما، لكن هناك خصوصية في هذا الجانب بالنسبة لآل مرة، فأنا مثلا من مواليد مدينة الرياض وعشت فيها إلا أنني قضيت الإجازات الدراسية وما تيسر من الوقت في المناطق البرية. كما أن معرفة الأثر وقصه من المهارات المكتسبة عند جيل الآباء، وربما أدى انبهار الناس من خارج القبيلة بهذه المهارة إلى أن يجعل الأجيال المتعاقبة من آل مرة تتشرب المهارة كميزة يحافظون عليها ويتعلمون في ميدانها وفنها. 

  • هل تقصد أنكم تسعون إلى اكتساب المهارة في قص الأثر بصورة متعمدة؟
= لا.. في إجابتي السابقة أحاول تقديم تفسير للظاهرة لكن لو طبقت الأمر على نفسي فلا أعرف بالتحديد متى نشأ معي الاهتمام بقص الأثر، فمنذ الصغر وعيت على الاهتمام بهذا الجانب إلى أن بلغ أوج ذلك بدراسة الماجستير في هذا الموضوع قبل عقدين من الزمن تقريبا. 

  • بالقياس على إجابتك حول تأثير طبيعة البيئة الرملية فسوف أفترض أن أبناء القبائل التي سكنت في منطقتي الدهناء والنفود الكبير لديهم المهارة في قص الأثر، لكن لماذا أخذت قبيلة آل مرة الشهرة؟
= صحيح هناك أفراد من قبيلة شمر وعنزة وغيرهم من سكان القرى عرفوا بالمهارة العالية في قص الأثر، لكن الشهرة كانت وما زالت لآل مرة حتى أن قصاص الأثر يطلق عليه حالياً (المَرّيّ)، وإن كان لا ينتسب لآل مرة، لأن (المري) عند عامة الناس تسمية لقصاص الأثر على الإطلاق، وهذا يعود إلى أن السواد الأعظم من قصاصي الأثر هم من آل مرة خصوصا أن 90% تقريبا منهم كانوا يقطنون في الربع الخالي وهذه منطقة وميدان مختلف في سعته عن الدهناء والنفود الكبير. 

  • لننتقل إلى قصاص الأثر نفسه، ما المهارات التي تجعل شخصا بعينه لديه معرفه بقص الأثر؟ هل هي قوة ملاحظة أم ذاكرة متقدة أم حدة بصر أم ماذا؟
= كل ما ذكرته في سؤالك مطلوب، إضافة إلى الذكاء وصفاء الذهن والقدرة على التركيز وهذه هبة من الله، وأضيف إلى ذلك شيئاً مهماً وهو الخوف من الله دائما والخشية منه سبحانه، خاصة إذا كان مطلوبا منه التعامل مع آثار في مسرح الجريمة. 

  • بالنسبة لك، إذا كان الأثر الذي تتبعه لرجل حافي القدمين وتداخل مع آثار حفاة بنفس الحجم، كيف لك أن تستمر في التتبع؟
= قبل أن أجيبك سأروي قصة قديمة عن رجل من آل مرة فقد ناقته فتتبع آثارها إلى أن وصل مورد ماء، ثم تبين له أن المورد يخرج منه أكثر من مساق: والمساق هو الدرب الذي تمشي عليه الإبل إذا وردت وصدرت من الماء، وكان يحتاج إلى تتبع هذه (المساقات) ليعثر على الأثر ويواصل تتبعه، وكان على مورد الماء مري آخر تبرع في مساعدته رغم أنه لا يعرف الناقة لكنه سأله (الناقة من هي عليه؟) ويقصد السؤال عن الفحل الذي ضرّب أمها (أب الناقة)، فسمى صاحب الناقة الفحل وهو معروف ومشهور، ثم تفرّق الاثنان، وبعد فترة قصيرة من البحث صوت المتبرع لصاحب الناقة ليشير على أثر الناقة الذي عثر عليه رغم أنه لم يرَ الناقة من قبل، فواصل صاحب الناقة تتبع الأثر.
طبعا سوف يعتقد البعض أن في ذلك مبالغة فكيف عرف الثاني الأثر وهو لا يعرف الناقة، وربما يأتي آخر فيقول كيف يعرف قصاص الأثر أصلا أثر ناقته والخفاف متشابهة، فأقول إن قصاص الأثر البارع تصل معرفته إلى التمييز بين أثر خفاف الإبل وحجمها وشكل استدارتها، أما الثاني الذي لا يعرف الناقة فقد استعان بمعرفته وخلفيته عن إنتاج الفحل من الإبل التي تكون سلالة متشابهة.
وعليه فلا أبالغ إذا قلت إن تتبع الحالة التي ذكرتها في سؤالك عن الحفاة أسهل علي من التفريق بين وجوه البشر، لأن الأرجل بشكل عام- وهذا من أسرار قصاصي الأثر- مختلفة فيما بين ثلاثة حالات لوصف أقدام البشر، فهنالك (الأكرف: وهذا وصف للأقدام التي تكون مائلة إلى الداخل، فالقدم اليمني تكون مائلة قليلا جهة اليسار والقدم اليسرى تكون مائلة جهة اليمين)، وهناك (الأزرح: والمقصود عندما تكون القدمان متباعدتان)، وهناك ( الأمد: أي الأقدام مستقيمة)،وهناك ثقل الوزن وعلاقته بعمق الأثر الذي ينطبع على الأرض، وهناك أصحاب العاهات حتى لو كانت محدودة مثل انحراف أصبع عن بقية الأصابع، وهناك أسرار كثيرة ربما نحتاج إلى صفحات كي نوضحها بالتفصيل. 

  • وماذا لو كانت الآثار ليست لحفاة بل لمن يلبسون أحذية متشابهة في شكل الأثر والمقاس؟
= هنا يمكن الاستدلال بشكل الأقدام التي وضحتها في إجابتي على السؤال السابق، إضافة إلى قوة الأثر وعلاقته بالوزن، وهناك قرائن أخرى تتعلق بالخطوة المتزنة التي يختلف أثرها عن "الخطوة المرتبكة" التي أستنتج منها الحالة النفسية للشخص وما إذا كان متعاطياً مخدراً أو مسكراً، وهكذا. 

  • هذا على افتراض أن يكون الأثر على أرض رملية، وماذا لو دخل في أرض حصوية أو صخرية؟
= هنا أعتمد على أشياء أخرى مثل تخلخل الحصى والصخور عندما تطأ الأقدام الأرض، وهيئة النباتات والأغصان الخفيفة التي تتكسر أو تميل في حال داستها الأقدام، ثم يمكن عمل الاستقطاع  وهو الدوران على حواف الأرض الحصوية في اتصالها بالأرض الرملية من أجل معرفة المكان الذي خرج منه صاحب الأثر. 

  • كيف ترد على من لا يصدّق أن هناك أشخاصا لديهم القدرة على قص الأثر وتتبعه ومن ثم تحديد صاحبه، ويعتبر ذلك من الخرافات؟
= أولا هذا علم من العلوم التي برع فيها العرب منذ الجاهلية، كما أن الشواهد دلت على أنه تم الاستعانة بقصاصي الأثر منذ صدر الإسلام وحتى وقتنا الحاضر، ثم لو رغبت لقمت بإجراء تجربة في الميدان بالشكل الذي تطلبه لتطلع عليها شخصياً وتحكم بنفسك. 

  • لقد شهدت التجربة واقتنعت تماما بأن القصاص يستطيع تتبع الأثر وتحديد شخصية صاحبه، لكن ما تأثير العوامل الجوية كالمطر والرياح في تتبعك للأثر؟
= بكل صراحة أقول إذا اشتدت الرياح أو هطلت الأمطار على الأرض واختفت المعالم الرئيسية للأثر فإن القصاص لا يستطيع الاستدلال عليه، وسؤالك يدفعني إلى توضيح أن القصاص يستطيع تحديد توقيت الأثر في مثل هذه الحالات، إضافة إلى انه يستفيد من آثار الحشرات والزواحف الصغيرة، فمثلا إذا كان أثر الشخص فوقه أثر حشرة أو أحد الزواحف فيستدل على أن الأثر فات عليه يوم، وإذا كان فوق أثر الحشرة أثر آخر لحشرة فيحتمل أن يكون الأثر منذ يومين أو أكثر، وهكذا. 

  • بشأن أثر الكائنات، أقول إن هاوي الصيد خاصة الصّقّار لديه المقدرة على تتبع أثر طيور الحبارى والكروان، ومثله هاوي صيد الأرانب يستطيع تتبع أثرها بل ومعرفة حالاتها من كونها ترعى أو تسعى إلى جحرها أو هل هي ذكر أم أنثى، بينما تجد مثل هؤلاء لا يمتلكون المهارة في معرفة أو تتبع اثر البشر، هل يعني ذلك أن الشخص إذا ركّز اهتمامه بأثر كائن معين يستطيع معرفة أسراره؟
= هذا صحيح، لكن لا بد أن تتوافر في الصياد أو الشخص الخصائص التي ذكرناها في معرض الإجابة على سؤال سابق، ولهذا تجد حتى الصيادين يتباينون في المهارة شأنهم في ذلك شأن قصاصي الأثر. 

  • ماذا عن السيارات، هل تستطيع تتبع الأثر الذي ترسمه الإطارات على الأرض؟
= نعم، إذا كانت في أرض رملية أو ما يشبهها، لكن فيما يتعلق بالسيارات لا يستطيع قصاص الأثر سوى الاستدلال على أثر الإطارين الخلفيين لأنهما يمحوان أثر إطاري المقدمة، ومع هذا يمكن الاستدلال على شكل إطاري المقدمة في حالة انحراف السيارة أو دورانها، وأحياناً توجد عيوب في الإطار مثل قطع صغير يستطيع القصاص من خلاله تحديد السيارة. 

  • من خلال دراستك وحصولك على درجة الماجستير في موضوع قص الأثر، هل يمكن عقد دورات لتدريب الأفراد على قص الأثر؟
= نعم، وكنت عملت هذا الشيء سابقا، لكن أعيد التأكيد على ضرورة توافر الخصائص التي تميز أشخاصا عن غيرهم مثل الذكاء وصفاء الذهن وقوة الملاحظة والذاكرة مع ضرورة وجود الرغبة في فهم الجانب النظري والعملي في موضوع قص الأثر. 

  • في ميدان قص الأثر ما أغرب حالة تعاملت معها؟ 
= من أغرب الحالات أو أطرفها أن شخصاً من جنسية عربية زعم أن مجهولا قام بالسطو على منزله وكسر شنطة حديدية وسرق كل ما تحتويه من نقود، وهي عبارة عن أمانات أودعها أصحاب له من نفس الجنسية، ولما حضرت إلى المكان تبين لي أن الشنطة كسرت عمداً وبُعثرت محتوياتها وعرفت أن الجاني لم يترك أثر بصمة أو شيء آخر يدل عليه، ومن حسن الحظ، أو سوء حظ هذا الشخص أن هناك بقايا غبار حول الشنطة وتبين لي أثر الأقدام وما يشير إلى أنها للشخص الذي كسر القفل، وتبين لي أيضاً أن الأثر لنفس الشخص الذي بلّغ عن الأمانات المسروقة، ولهذا أخبرت الشرطة وبعد التحقيق اعترف، وكان يريد من هذه الحادثة تثبيت سرقة المال ليستحوذ عليه، فانطبق عليه المثل (على نفسها جنت براقش).

انتهت أجزاء رحلة إلى الربع الخالي.. وهذا الجزء الخامس عشر.. وفيما يلي الأجزاء السابقة
اضغط على العنوان لينقلك مباشرة للجزء المطلوب














ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق