الجزء السادس: سلامة يصيد الغزلان في الصمان
كتب وصوّر: محمد اليوسفي
عندما كتبت الجزء الأول من هذه السلسلة، رسمت في ذهني ترتيبا موضوعيا لبقية الأجزاء بما فيها من أحداث وقصص وطرائف، بحيث تكون الأجزاء مكملة لبعضها، لكنني؛ في هذا الجزء، أخالف الترتيب كي أؤكد على أن هذه الرحلة ليس من أهدافها الصيد.لم يتبق حاليا في الأماكن المفتوحة من الربع الخالي من طرائد الصيد سوى الأرانب البرّيّة، ما زالت ترتع في مواقع عدة، فكلما بعد المكان وازدادت وعورته ووجدت فيه الشجيرات الدائمة مثل الأرطى والحاذ والشنان وبعض الأنواع النجيلية مثل نباتي النصي والثداء كلما رصدت آثار الأرانب نهارا وشاهدتها ليلا بكثرة.
الصيد في الربع الخالي، إلى وقت غير بعيد، غير ممنوع بل متاح للجميع وإن كان حكرا على فئة (الشيوخ)، فعامة الناس؛ الذين لم يسكنوا الربع الخالي، ليس بمقدورهم الصيد بسبب عدم امتلاك السيارات أو لعدم توافر أدوات الصيد فضلا عن أنه لم يكن يوجد إلا قلّة من الصيادين لديهم الجرأة على اقتحام الكثبان الغامضة وتجاوز وعورتها برفقة أدلاء يعينونهم على عدم التوهان ويساعدونهم على التنقل في مساحات شاسعة خالية من البشر وليس فيها طرق معبدة. لكن الحال الآن ليس كذلك. كثيرون جربوا الصيد في الربع الخالي وتناقلوا تجاربهم وخبراتهم، ثم بمساعدة الطفرة في سيارات الدفع الرباعي وأجهزة تحديد المواقع والفضاء الإنترنتي المفتوح أصبحت الخبرات والمعلومات متاحة لمن هب ودب. وإذا أردت التأكد، فدونك قوقل أو شبكات التواصل، ستطّلع على رحلات مصوّرة لغرض الصيد في الربع الخالي بواسطة البنادق والصقور وكلاب الصيد أجلكم الله. وللأسف أسمع أن من بين هؤلاء الصيادين أشخاص من فئات يفترض أن تكون بمنأى عن استمراء استغلال حالة وجود أنظمة وقوانين على الورق فقط دون تطبيقها. أتوقع إذا بقى الحال على ما هو عليه (الآن) فأن الأرانب البرية سوف تنحسر أعدادها في الربع الخالي سريعا وتلحق بالمها والغزلان وغيرها من الحيوانات المنقرضة. ولا عزاء لبيان الصيد الذي يؤكد، في كل سنة، قبيل موسم الصيد على: «يمنع الصيد بجميع أشكاله ووسائله في منطقة الربع الخالي».
في الجزء الغربي من الربع الخالي، هناك بقية من قطعان الغزلان والمها العربي (الوضيحي) التي لم يشاهدها، تعيش في الطبيعة، أبناء جيلي والأجيال المتأخرة. في هذا الجزء وتحديدا في عروق بني معارض، وهي من أشد الكثبان وعورة، سأتحدث عن رجل في العقد الثامن من العمر اسمه سلامة بن منيف آل دمنان، نشأ محبا للصيد منذ صباه. سألته، وأنا أعرف ما يثير كوامن ما يسميه الصيادون «ولع الصيد»، بماذا تشعر لحظة اكتشاف أثر الطريدة مرسوما على الرمال. أجاب: كلما شاهدت أثر الجوازي تذكرت قصيدة قالها أحد رفاقي ونحن في مسرح الصيد وسط عروق الربع الخالي يوم كنا شبابا نقضي الأيام متنقلين على ظهور الجمال نطارد الغزلان حتى شمال الربع الخالي بل إلى الصمان حيث نصيدها وسط خباريه ورياضه، أتذكر الصديق يرحمه الله حين قال في رحلة صيد:
بديت عرق وسميته مسلّي
جعل الوسام يتقدم له وياتيه
حيثه مرب الجوازي كل حلّي
يا زين شوف الوضيحي رتّع فيه
يا خوي طرد الجوازي ما يملّي
في تالي اليوم إلى انكب ذاريه
والآن كلما شاهدت وسط عروق بني معارض جميلة (الجميلة تعني مجموعة من الغزلان) أتحسّر على حادثة مطاردة ارتكبتها وأنا شاب قبل عشرات السنين مع رفاقي الصيادين حيث شاهدنا خمسة وعشرين غزالا في الصمان طاردناها وقتلناها خلال يوم واحد فقط، ولم يفلت منها -عندما حل الظلام- إلا عدد محدود لم يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، وربما إصبناها ونفقت.
وفي مقارنته بين الماضي والحاضر قال سلامة «صياد الغزلان» بعبارة مغلفة بالحسرة «لقد فقدنا غاليا، ولم يبق في صحارينا ما يثير البهجة أو المتعة بعد انقراض الغزلان وانعدام وجودها بحالتها الفطرية».
استطرد سلامة في حديث لا ينقصه الوعي يعيد أسباب الفتك بالغزلان إلى دخول السيارات للمنطقة وانتشارها وامتلاك البنادق المتطورة مع طغيان شهوة التفاخر والمباهاة التي استحكمت على سلوك الصيادين من أبناء الطبقة المترفة. وسرحت أنا مع استطراد سلامة متخيلا المشهد (واحدة من رياض الصمان ترتع فيها الغزلان). ربما لا نصدق أن بيننا كبار سن شاهدوا الغزلان والأحياء الجميلة في الصمان وغيره من براري المملكة ولم يصيدوا منها (غالبا) إلا ما يسد حاجتهم رغم معاناتهم من وطأة الفقر والمجاعات. و الواقع أن الصورة مغايرة في العقود الأخيرة.
بقي لي في هذا الجزء الإشارة إلى أن سلامة بن منيف هذا الذي نتحدث معه في محمية عروق بني معارض صياد سابق أمضى فترة من عمره موظفا في الهيئة السعودية للحياة الفطرية في المحمية ضمن (الجوالين) وهم أشبه برجال أمن مهمتهم حراسة المحميات الطبيعية.
يتبع:
رحلة إلى الربع الخالي
الجزء السابع: اقتحام المجهول بكتاب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق