الأحد، 28 ديسمبر 2014

رحلة إلى الربع الخالي (ج٩)

قويتوا، والكشكشة


كتب وصوّر: محمد اليوسفي

تعتبر محافظة شرورة أو كما يطلق عليها أهلها (عروس الربع الخالي) واحدة من محافظات إمارة نجران، وتبعد عنها باتجاه الشرق بنحو ٣٥٠كم، وتقع في سهل منبسط، وبالقرب منها منفذ الوديعة الحدودي مع اليمن، ويزيد عدد سكانها بقليل عن اثنين وسبعين الف نسمة، ولا تختلف كثيرا عن المدن الصغيرة في مختلف أرجاء المملكة سواء في نموذج تخطيطها أو في مستوى مرافقها وخدماتها.

تصورت قبيل زيارتي لها أول مرة, من أجل التزود بالاحتياجات التموينية خلال هذه الرحلة إلى الربع الخالي، أن حركة سكانها وايقاع حياتهم اليومية يلفهما الهدوء، ربما بنيت التصور على خلفية أنها تقع في أحضان تلك الصحراء الممتدة الساحرة بسكونها وغموضها. الواقع أن جولة قصيرة أعطت انطباعا مغايرا. توقفت بداية عند اسمها وسألت عن المعنى أو الدلالة فقيل لي تعليل الاسم بسبب وجود حصى في أطراف المنطقة، ولأن القوافل قديما عندما كانت تعبرها تطأ الأبل أرضها فتبعثر بأخفافها الحصى فيضرب بعضه بعضا فيتولد من ذلك شرر، ولهذا أطلق عليها اسم شرورة.

لفت انتباهي في أحد الشوارع نصب أو برج صنع بعناية يتوسطه نحت كلمة (قْوِيْتُوا)، وتلك كلمة للتحية جذورها من قبائل تلك المنطقة. والربع الخالي (عموما) سكنه في الوقت الحاضر (بحسب توثيق كتاب الربع الخالي الصادر عن هيئة المساحة الجيولوجية) القبائل التالية: يام والدواسر وآل مرة والمناصير والمزاريع وآل أبو شامس وبني ياس وآل أبو فلاح والدروع والعوامر والحراسيس والعفار والرواشد وآل كثير والمناهيل والمهرة والصيعر ودهم. وإذا ذكرت محافظة شرورة فأكثر ما يرتبط بها قبيلة الصيعر. وتُغني كلمة (قويتوا) عن المصافحة باليد، وهي تقال للمفرد (قْوِيْتْ) والمعنى الدعاء لمن ألقيت عليه التحية بأن يمنحه الله القوة والسلامة. فيرد (نْجِيْتْ) ومعناها الدعاء للمحيي بالنجاة. وقد سمعت في زيارتي العابرة لشرورة الكلمة تتردد أول مرة بين أصحاب محطة بنزين ثم في محل بقالة في الخرخير، وهذه محافظة صغيرة تبعد عن شرورة شرقا بأكثر من خمسمائة كيلومتر، وتقع في حافة حدود المملكة مع اليمن، ولا يتجاوز عدد سكانها أربعة آلاف نسمة، وسميت بهذا الاسم نسبة إلى موقعها وسط عروق من الكثبان الرملية تعرف باسم عروق الخرخير.

بدا لي أن (قْوِيْتُوا) شعار في شرورة وما حولها مثلما أن (مرحبا تراحيب المطر) شعار في الطائف أو (مرحبا هيل عدّ السيل) في الباحة أو (مرحبا ألف) في مدن وقرى عسير أو (أرحبوا) في نجران، وهكذا. لا شك أن هذه الشعارات تعبّر عن بشاشة أهلها، ولعل تكرار ترديد التحية والترحيب في تخاطب سكان مناطق جنوبي المملكة مظهر للاهتمام بالزوار ومقدمة لإكرام الضيوف. هذه صفة حميدة، لكن ثمة سمة بارزة بين هؤلاء السكان وهي السرعة في كلام الناس في الحديث المتبادل، وهذه السمة تعطي - في تقديري - ايقاعا موسيقيا لطيفا خصوصا إذا ما صاحب الكلام تكرار خصوصية نطق حرف الشاء في لهجة الجنوب ولهجة بعض قبائل شرقي المملكة كضمير لخطاب المؤنث، كأن يقول أحدهم يخاطب أمه: كيف حالش؟ أي كيف حالك؟ مثلما يقال عند سكان وسط المملكة كيف حالس أو حالتس؟ ولهذه اللهجة أصل في لغة العرب، فمصادر اللغة تفيد أن بعض قبائل العرب قديما كانت تُلحق حرف الشين بعد كاف المؤنث عند الوقف، فيقال (هذا الثوب لكش)، أي لكِ، وتضيف قبائل أخرى حرف السين فيقال (هذا الثوب لكس)، أي لكِ، وبسبب اجتماع حرفي الكاف والشين سميت الأولى عند أهل اللغة الكشكشة، وسميت الأخرى بسبب اجتماع حرفي الكاف والسين الكسكسة. وكانت قبائل عربية تكتفي بإبدال كاف المؤنث بحرف الشين أوالسين. ومن قديم الشواهد الشعرية على ذلك قيل:
 
فعيناش عيناها وجيدش جيدها
سوى أن عظم الساق منش دقيق
أي:
فعيناك عيناها وجيدك جيدها
سوى أن عظم الساق منك دقيق

ومن شواهد الشعر الشعبي تلك الابيات الغزلية البسيطة التي أعزوا سبب انتشارها قبل فترة عبر رسائل الجوال وفي منتديات ومواقع الإنترنت إلى تلك الشين التي يضفي تكرارها ايقاعا موسيقيا لطيفا، وهي للشاعر ضيدان بن قضعان العجمي:
 
يا مرحبا ترحيبة كلها لش
تكسيش من راسش اليا حد ماطاش
من قلب مهيوم بحبه صفا لش
يلعب به الغربي اليا سمع طرياش
يفرح اليا منه قال لش كيف حالش
ولولا غلاش وحشمتش كان ماجاش
وان قلتي انه غايتش شف بالش
كنه ملك يا عرب من الطاش للطاش
يا بري حالي وين مالي ومالش
لا والله الا لي ولش لعنبا اللاش
من هامتي لمحزمي لش حلالش
بيتش فديتش واسكني باوسط الجاش
وان ما بلشتي بي وانا فيش بالش
غديت مثل اللي شرى علته كاش
انا في وجه امش وابيش وخوالش
ما جيت لي حاجة واعود على ماش

يتبع: 
رحلة إلى الربع الخالي "الجزء العاشر"
الحارس حصان إبليس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق