اقتحام المجهول بكتاب
كتب وصوّر: محمد اليوسفي
قبل أكثر من ١٧ عاما، ومع بدء انتشار استخدام عامة الناس في المملكة لأجهزة نظام تحديد المواقع العالمي(GPS)، تلك التي تداولوها باسم "الماجلان، والقارمن"، وفي وقت كان جزء صحراوي من شرقي المملكة (الصمان) شبه مجهول لدى كثيرين، ظهر كتاب بعنوان الصمان لمؤلفة سعد الشبانات. الكتاب بحث في تأريخ المكان وأتى بمعلومات من ميدانه ووصف الأجزاء الرئيسة لهذه الهضبة الجميلة وحدد أسماء كثير من مراكزها وفياضها ورياضها ورجومها ورصد إحداثياتها وفقا لنظام تحديد المواقع، ووثّق كل ذلك مستخدما الرسوم والخرائط والصور الفوتوغرافية.
هذا الكتاب؛ ومثله الكتب التي تتفرد بتحقيق أماكن صحراوية تعارف الناس على أنها مجهولة بسبب قلة التجمعات السكانية فيها، نجدها لا تحظى بقبول المتخصصين والبلدانيين والمهتمين فقط، بل هنالك فئات أخرى تتلقفها وتستخدمها كأدلة تساعدها على الوصول إلى براري بكر غنية بأشجارها ومراعيها وأحيائها الفطرية المختلفة. والنتيجة؛ إذا أخذت الصمان مثالا، قبل الكتاب وبعده، أن المكان المعلوم لفئة محدودة من سكان المنطقة أو ملاك الماشية الباحثين عن المراعي الخصبة أصبح غير مجهول لكثيرين ابتداء من عشاق الوقوف على الأطلال والمعالم الأثرية مرورا بمحبي التنزه البيئي وهواة "الكشتات" وليس انتهاء بالمراهقين من ممارسي الصيد، فتوسعت دائرة المرتادين والمتنزهين والصيادين والعابثين والمجازفين أيضا.
وبالتدريج بدأت تختفي؛ جراء الصيد والاحتطاب الجائرين واستنزاف مكونات الطبيعة البرية وتلويثها، الأشجار والمظاهر والأحياء الفطرية الجميلة. ليس هذا فحسب، فقد أصبحنا نتداول تكرار أخبار فقد أبنائنا وموتهم في الصحاري جراء التساهل بالمجازفة في اقتحامها. صحيح أن الطفرة في استخدام الخرائط الرقمية "أو سمّها الدليل الآلي إن شئت" ساعدت على تمكين أي مبتدئ من الوصول إلى أبعد مكان دون الحاجة إلى دليل بشري، وأشاعت الجرأة والمجازفة في اقتحام الصحاري النائية، لكن لا أحد يستطيع إغفال أهمية توافر توثيق حد أدنى من المعلومات عن طبيعة المكان وأسماء أجزائه ومداخله ومخارجه ومدقاته وتضاريسه، وأقصد بالتوثيق ما تحتويه أي وسيلة معتبرة ومتاحة للعامة، وليس المعلومات المنقولة مشافهة عن أي مكان مجهول، فهذه تبقى غالبا في حيز انتشار محدود.
قارن بين قلّة مرتادي الصمان حين كانت المعلومات الموثّقة قليلة وبين كثرتهم بعد صدور كتاب الشبانات بمساعدة عوامل أخرى، ستجد أننا أمام حالة مشابهة فيما يتعلق بالربع الخالي. فمرتادوه قلة (الآن) لكن المتوقع تغير الحال بعد أن خرجت هيئة المساحة الجيولوجية السعودية بكتاب سيكون "دليلا" مشاعا عنه. فقد صدر كتاب بعنوان "الربع الخالي: بحر الرمال العظيم" تأليف محمد بن أحمد الراشد وعبدالله بن صالح العنيزان، وبمشاركة ومراجعة وتدقيق ستة عشر باحثا ومتخصصا وبإشراف معالي رئيس هيئة المساحة الجيولوجية الدكتورزهير نواب. يقع الكتاب في أربعمائة صفحة من القطع المتوسط. قسّمه المؤلفان إلى أربعة أبواب ضمت عناوين فرعية شملت موقع الربع الخالي ومساحته وتسميته ونشأته وتكوينه ومظاهره الطبيعية والمراكز السكانية التي تقع فيه والطرق والمسالك التي تخترقه وموارد المياه والبيئة الفطرية والثروات الطبيعية التي يكتنزها، إضافة إلى ملاحق أبرزها الخرائط التفصيلية، والمصطلحات المحلية للمظاهر الطبيعية التي تستخدم بين سكان الربع الخالي والمناطق الأخرى في المملكة، هذا فضلا عن رصد 2645 موقعا مصنفة حسب طبيعتها وتضاريسها مع تحديد دقيق لكل موقع حسب دوائر العرض وخطوط الطول "الإحداثيات".
لست بصدد تدوين عرض مفصّل للكتاب أو التنويه بمزاياه أوالاستفاضة بالحديث عنه كنتاج جهد ميداني ضخم، ولست بصدد الإشادة ببراعة المؤلفين في حشد أكبر قدر من المعلومات في أقل عدد من الصفحات خاصة فيما ضمه الباب الرابع المخصص للمظاهرالطبيعية؛ حيث ابتعدا عن "الحشو التجاري" الذي نراه في بعض الإصدارات الأكاديمية، ولست بصدد مقارنة غير منطقية بين كتاب الصمان وبين كتاب الربع الخالي، فالأول نتاج مبادرة وجهد يذكر فيشكر لباحث واحد، والآخر عمل جماعي صادر عن جهة حكومية تملك من الصلات والقنوات والإمكانات والأدوات ما لا يتوافر للباحث المجتهد.
بالتأكيد كتاب الربع الخالي إضافة هامة في سجل البحوث الجغرافية والتحقيقات الميدانية، ويكتسب أهمية خاصة كونه يتناول منطقة انطبع في أذهاننا - بسبب فقر المصادر المتاحة عنها - أنها مجهولة، لكن سأقف عند قراءة مستقبلية أو بالأحرى نتائج سلبية متوقعة من انتشار هذا الكتاب، ولا أعتقد أن لهيئة المساحة الجيولوجية ذنب في وقوعها إلا إذا كنا سنحاسبها الآن على قيامها بدورها في تزويد المجتمع بالمعرفة والمعلومات عن المجالات التي تقع في دائرة واجباتها واهتماماتها.
لقد تزايد الاهتمام و "الولع" مؤخرا بهوايتي الصيد والرحلات البرية بين فئة مراهقة عابثة قلبت الصيد كموروث إلى قتل وتخريب وحوّلت الترحال إلى "كشتات تلويث وتدمير بيئي"، ومجازفات دون تقدير للعواقب. والدليل أن الصمان تلك الهضبة الغنية جدا بتنوعها الفطري قبل عقدين تكاد تكون خاوية الآن. هذا سينطبق في تقديري على الربع الخالي الذي لن يكون مجهولا بعد كتاب الراشد والعنيزان.. و...بعد تدشين الطريق المسفلت الرابط بين السعودية وسلطنة عمان عبر الربع الخالي. وقد يأتي من يقول: إن هذا التشاؤم لا مبرر له إذا افترضنا أن وزارة الزراعة والهيئة السعودية للحياة الفطرية والرئاسة العامة للأرصاد وحماية البيئة ووزارة الداخلية ستقوم بأدوارها على الوجه المطلوب وستتكامل جهودها و أنشطتها وستجد حلا سريعا وستقضي بين عشية وضحاها على كل مظاهر التخريب والعبث و التلويث التي لحقت وستلحق بالمكونات البيئية للمناطق الصحراوية بما فيها من الأحياء الفطرية, وستنجح وزارة الداخلية في ضبط المخالفات وتوعية أولئك المجازفين وستسيطر على سلوكياتهم.
أريد أن أتفاءل لكني أشفق على الدفاع المدني الذي ربما نشاهد فرقه الميدانية المتخصصة في البحث والإنقاذ وقد أعياها التردد في رحلات مكوكية لا تنقطع تلاحق المتهورين الهائمين بـ"ولّع الصيد" المفقودين و المتوفين عطشاً في الربع الخالي خاصة أولئك الذين سيتغافلون عن وعورة كثبانه الممتدة في بحر متلاطم من الرمال المهيبة التي ستغدر حتما بمن يتهاون في اتخاذ (كل) احتياطات السلامة وضوابطها.
هذا الكتاب؛ ومثله الكتب التي تتفرد بتحقيق أماكن صحراوية تعارف الناس على أنها مجهولة بسبب قلة التجمعات السكانية فيها، نجدها لا تحظى بقبول المتخصصين والبلدانيين والمهتمين فقط، بل هنالك فئات أخرى تتلقفها وتستخدمها كأدلة تساعدها على الوصول إلى براري بكر غنية بأشجارها ومراعيها وأحيائها الفطرية المختلفة. والنتيجة؛ إذا أخذت الصمان مثالا، قبل الكتاب وبعده، أن المكان المعلوم لفئة محدودة من سكان المنطقة أو ملاك الماشية الباحثين عن المراعي الخصبة أصبح غير مجهول لكثيرين ابتداء من عشاق الوقوف على الأطلال والمعالم الأثرية مرورا بمحبي التنزه البيئي وهواة "الكشتات" وليس انتهاء بالمراهقين من ممارسي الصيد، فتوسعت دائرة المرتادين والمتنزهين والصيادين والعابثين والمجازفين أيضا.
وبالتدريج بدأت تختفي؛ جراء الصيد والاحتطاب الجائرين واستنزاف مكونات الطبيعة البرية وتلويثها، الأشجار والمظاهر والأحياء الفطرية الجميلة. ليس هذا فحسب، فقد أصبحنا نتداول تكرار أخبار فقد أبنائنا وموتهم في الصحاري جراء التساهل بالمجازفة في اقتحامها. صحيح أن الطفرة في استخدام الخرائط الرقمية "أو سمّها الدليل الآلي إن شئت" ساعدت على تمكين أي مبتدئ من الوصول إلى أبعد مكان دون الحاجة إلى دليل بشري، وأشاعت الجرأة والمجازفة في اقتحام الصحاري النائية، لكن لا أحد يستطيع إغفال أهمية توافر توثيق حد أدنى من المعلومات عن طبيعة المكان وأسماء أجزائه ومداخله ومخارجه ومدقاته وتضاريسه، وأقصد بالتوثيق ما تحتويه أي وسيلة معتبرة ومتاحة للعامة، وليس المعلومات المنقولة مشافهة عن أي مكان مجهول، فهذه تبقى غالبا في حيز انتشار محدود.
قارن بين قلّة مرتادي الصمان حين كانت المعلومات الموثّقة قليلة وبين كثرتهم بعد صدور كتاب الشبانات بمساعدة عوامل أخرى، ستجد أننا أمام حالة مشابهة فيما يتعلق بالربع الخالي. فمرتادوه قلة (الآن) لكن المتوقع تغير الحال بعد أن خرجت هيئة المساحة الجيولوجية السعودية بكتاب سيكون "دليلا" مشاعا عنه. فقد صدر كتاب بعنوان "الربع الخالي: بحر الرمال العظيم" تأليف محمد بن أحمد الراشد وعبدالله بن صالح العنيزان، وبمشاركة ومراجعة وتدقيق ستة عشر باحثا ومتخصصا وبإشراف معالي رئيس هيئة المساحة الجيولوجية الدكتورزهير نواب. يقع الكتاب في أربعمائة صفحة من القطع المتوسط. قسّمه المؤلفان إلى أربعة أبواب ضمت عناوين فرعية شملت موقع الربع الخالي ومساحته وتسميته ونشأته وتكوينه ومظاهره الطبيعية والمراكز السكانية التي تقع فيه والطرق والمسالك التي تخترقه وموارد المياه والبيئة الفطرية والثروات الطبيعية التي يكتنزها، إضافة إلى ملاحق أبرزها الخرائط التفصيلية، والمصطلحات المحلية للمظاهر الطبيعية التي تستخدم بين سكان الربع الخالي والمناطق الأخرى في المملكة، هذا فضلا عن رصد 2645 موقعا مصنفة حسب طبيعتها وتضاريسها مع تحديد دقيق لكل موقع حسب دوائر العرض وخطوط الطول "الإحداثيات".
لست بصدد تدوين عرض مفصّل للكتاب أو التنويه بمزاياه أوالاستفاضة بالحديث عنه كنتاج جهد ميداني ضخم، ولست بصدد الإشادة ببراعة المؤلفين في حشد أكبر قدر من المعلومات في أقل عدد من الصفحات خاصة فيما ضمه الباب الرابع المخصص للمظاهرالطبيعية؛ حيث ابتعدا عن "الحشو التجاري" الذي نراه في بعض الإصدارات الأكاديمية، ولست بصدد مقارنة غير منطقية بين كتاب الصمان وبين كتاب الربع الخالي، فالأول نتاج مبادرة وجهد يذكر فيشكر لباحث واحد، والآخر عمل جماعي صادر عن جهة حكومية تملك من الصلات والقنوات والإمكانات والأدوات ما لا يتوافر للباحث المجتهد.
بالتأكيد كتاب الربع الخالي إضافة هامة في سجل البحوث الجغرافية والتحقيقات الميدانية، ويكتسب أهمية خاصة كونه يتناول منطقة انطبع في أذهاننا - بسبب فقر المصادر المتاحة عنها - أنها مجهولة، لكن سأقف عند قراءة مستقبلية أو بالأحرى نتائج سلبية متوقعة من انتشار هذا الكتاب، ولا أعتقد أن لهيئة المساحة الجيولوجية ذنب في وقوعها إلا إذا كنا سنحاسبها الآن على قيامها بدورها في تزويد المجتمع بالمعرفة والمعلومات عن المجالات التي تقع في دائرة واجباتها واهتماماتها.
لقد تزايد الاهتمام و "الولع" مؤخرا بهوايتي الصيد والرحلات البرية بين فئة مراهقة عابثة قلبت الصيد كموروث إلى قتل وتخريب وحوّلت الترحال إلى "كشتات تلويث وتدمير بيئي"، ومجازفات دون تقدير للعواقب. والدليل أن الصمان تلك الهضبة الغنية جدا بتنوعها الفطري قبل عقدين تكاد تكون خاوية الآن. هذا سينطبق في تقديري على الربع الخالي الذي لن يكون مجهولا بعد كتاب الراشد والعنيزان.. و...بعد تدشين الطريق المسفلت الرابط بين السعودية وسلطنة عمان عبر الربع الخالي. وقد يأتي من يقول: إن هذا التشاؤم لا مبرر له إذا افترضنا أن وزارة الزراعة والهيئة السعودية للحياة الفطرية والرئاسة العامة للأرصاد وحماية البيئة ووزارة الداخلية ستقوم بأدوارها على الوجه المطلوب وستتكامل جهودها و أنشطتها وستجد حلا سريعا وستقضي بين عشية وضحاها على كل مظاهر التخريب والعبث و التلويث التي لحقت وستلحق بالمكونات البيئية للمناطق الصحراوية بما فيها من الأحياء الفطرية, وستنجح وزارة الداخلية في ضبط المخالفات وتوعية أولئك المجازفين وستسيطر على سلوكياتهم.
أريد أن أتفاءل لكني أشفق على الدفاع المدني الذي ربما نشاهد فرقه الميدانية المتخصصة في البحث والإنقاذ وقد أعياها التردد في رحلات مكوكية لا تنقطع تلاحق المتهورين الهائمين بـ"ولّع الصيد" المفقودين و المتوفين عطشاً في الربع الخالي خاصة أولئك الذين سيتغافلون عن وعورة كثبانه الممتدة في بحر متلاطم من الرمال المهيبة التي ستغدر حتما بمن يتهاون في اتخاذ (كل) احتياطات السلامة وضوابطها.
يتبع الجز الثامن:
رحلة إلى الربع الخالي..
الجنّيّة حَمْدَة وطبول الجنّ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق