الأربعاء، 24 ديسمبر 2014

رحلة إلى الربع الخالي (ج۱)

الخراب في ألف ليلة وليلة


كتب وصوّر: محمد اليوسفي


تلك المساحة الشاسعة التي تقع في الجزء الجنوبي الشرقي من شبه الجزيرة العربية، وتضم أشكالاً متنوعة من الكثبان الرملية المهيبة فيماسُمّي الربع الخالي، ما ان يتردد ذكرها حتى ينطبع في أذهان العامة صورة ذهنية نمطية تنطوي على الفقر البيئي والتصحر، بل والوحشة وعالم الجن والأشباح والمهالك، ولهذا ربما لم يزل هناك من يرى أن التوغل في تلك الكثبان بقصد السياحة الصحراوية ضرب من العبث والدخول في مآزق الصحراء ومجاهلها ناهيك عمن تسوقهم الظروف للمرور العابر بأطراف الربع الخالي فتصادفهم مواقف لم تكن مألوفة لديهم يبالغون في تفسيرها على خلفية تلك الصورة الذهنية. ولعل قصة ذلك المعلم المعيّن في منطقة وادي الدواسر شاهد على ذلك، حيث نُقل قبل أعوام عن بعض الصحف قصة إخبارية تقاذفتها المجالس وفضاء الإنترنت، وتتحدث عن خريج من مدينة الطائف عُيّن معلما في قرية نائية تبعد عن وادي الدواسر مائتي كيلومتر تقريبا، اضطر -في رحلة لمباشرة العمل- إلى مساعدة الأدلاء؛ عندما أراد الدخول في الجزء الأخير غير المسفلت من الطريق الموصل إلى القرية، وكان يرافقه شقيقه وابن عمه. وفي رحلة عودة من القرية إلى الطائف لزيارة الأهل تاه الثلاثة في  طريق صحراوي، ثم شاهدوا وهم في السيارة رجلا يمشي على قدميه، ويرتدي معطفا شتويا لا يتناسب مع لهيب الصحراء، وسألوه عن الاتجاه الصحيح وما إذا كان بقربهم مصدر للتزود بالمياه فدلّهم على تجمع سكاني على بعد بضعة كيلومترات. ولما وصلوا إليه -بحسب ما يروى عن المعلم- فوجئوا بالرجل قد سبقهم في الوصول، وأنهم في قرية مهجورة -وفقا لما جاء في الخبر- وقد بدت لهم مشاهد مريبة كظهور طفلة صغيرة وهياكل عظمية واختفائها فجأة، ففروا بسيارتهم من المكان، وبعد مغيب الشمس تيقنوا أنهم تائهون ومجبرون على التوقف حتى صباح اليوم التالي. جلسوا قرب شجرة وأشعلوا نارا في ظلمة الليل ثم بدت لهم أصوات أطفال ونساء وكلاب. وحتى لا تنسى عزيزي القارئ أننا بصدد الحديث عن رحلة إلى الربع الخالي، سأختصر وأشير إلى أن في الخبر تفاصيل مسرحية مثل نوم المعلم مع الجن ومشاهدته إياهم، وتفاصيل أخرى كتبت بحبر الإثارة، والخلاصة أن الثلاثة نجوا لكن ابن عم المعلم أصيب بمس من الجن! وقيل لهم –بحسب الخبر- إنهم تاهوا في مكان يسمى وادي المجنونة مشهوربالأشباح أو الجن. هكذا!
لست بصدد الحديث عن جهل أبناء المدن (أحيانا) بالتفسير الحقيقي لبعض المظاهر والسلوك البشري في البادية، ولا الحديث عن المهنية الصحفية في النقل والتحري والكتابة والدقة في الصياغة، فالخبر يقع -في تقديري- في فئة الأخبار الغرائبية التي يصعب التحقق من مصداقية تفاصيلها، هذا إذا استبعدنا فكرة أن الفبركة أنشبت أظفارها في الموضوع برمته. وبصرف النظر عن الغموض في التفاصيل وعدم الدقة في تحديد الأمكنة فالخبر تناقله الناس بحسب عنوانه على أنه "قصة واقعية" حدثت في الربع الخالي، وربما تختزنها الأذهان في نفس إطار الصورة المتخيلة التي ذكرتها في البداية. هذا الخبر أشبه بمرويات شهرزاد في قصص ألف ليلة وليلة.
لعل هذه المقدمة مدخل مناسب لأجزاء سأكتبها بتدرج موضوعي عن رحلة تجاوزت مدة أسبوعين قمت بها إلى الربع الخالي. والبداية من السؤال، كيف جاء اسم الربع الخالي؟
في أكثر من قصة من قصص ألف ليلة وليلة يرد مفهوم (الربع الخراب)، ويفهم مباشرة أو من سياق القصص أن الربع الخراب أرض نائية موحشة قاحلة خالية من النبات والحياة، ولهذا ذهب باحثون إلى اعتبار ان أصل اسم الربع الخالي يعتمد على ما جاء في ألف ليلة وليلة على افتراض أن كل من الربع الخالي المكان و "الربع الخراب" في قصص ألف ليلة وليلة شيء واحد، لكن المعروف أن ألف ليلة وليلة عمل أدبي منقول إلى العربية ويعتمد على قصص متخيلة فلا يعول عليه خصوصا ان حكاياته لا تخلو من عوالم الخرافة والسحر واللهو والصخب، وإن كان البعض يرى أن القصص اعتراها مع مرور الزمن شيء من الإضافات فيعتبر العمل تأليفاً متراكماً منذ القرن الثالث عشر الميلادي بحيث أدخل على القصص شيء من "أخبار العرب"، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن الربع الخراب وصف قديم لجزء من الأرض بسبب خلوه من مظاهر الحياة، فعن صفة الأرض ذكر الحموي في معجم البلدان آراء من سبقوه فيما قيل عن الربع الجنوبي الغربي من الكرة الأرضية، إذ ذكر: "وهذا الربع يسمى المحترق، ويسمى أيضا الربع الخراب".
وأعاد بعض المتخصصين أصل أسم الربع الخالي إلى القرن التاسع الهجري ونسبوه إلى الرحالة العربي ابن ماجد الذي أطلق على هذا الحيز من شبه الجزيرة العربية اسم "الربع الخلي" في كتابه الفوائد في أصول علم البحر والقواعد. وسبق ذلك، التسمية بالفج الخالي، حيث ذكر محققو كتاب مسالك الأبصار في ممالك الأمصار لابن فضل العمري المتوفى في منتصف القرن الثامن الهجري أن المقصود بالفج الخالي في هذا المصدر ما يسمى بالربع الخالي في الجنوب الشرقي من بلاد العرب.
وذهب الشيخ حمد الجاسر -رحمه الله- إلى القول إن الربع الخالي اسم حديث للجانب الجنوبي من الدهناء وما كان يعرف قديما برمال وبار وقسم من صحراء صيهد ورمل الحوش، والاسم- وفقا لهذا الرأي- مأخوذ من تعبير يستعمله أصحاب البحر القادمين إلى شواطئ الخليج حينما يكونون سائرين في عرض البحر، فعندما يريدون توجيه السفينة إلى إحدى الجهات الفرعية (أي الشمال الغربي أو الشمال الشرقي أو الجنوب الشرقي أو الجنوب الغربي) يعبرون بكلمة الربع الخالي ويقصدون أحد هذه الاتجاهات، ونظرا لأن أكثر المرافئ المقصودة حين اقتراب القادمين إلى جزيرة العرب تقع في اتجاهات فرعية تشير -فيما خلفها- إلى هذا الحيز من اليابسة جاءت لذلك التسمية بـ"الربع الخالي".
وأكثر ما يشيع ويرجح بين الباحثين أن أصل تسمية الربع الخالي جاءت من ترجمة لمصطلح (The Empty Quarter) الذي ورد في كتب الرحالين والمستشرقين المتأخرين، والتسمية بذلك جاءت لأن هذه الصحراء المتصلة تغطي (ربع) مساحة شبه الجزيرة العربية، إلى جانب أنها خالية من الاستيطان البشري الدائم بسبب قلة مواردها الطبيعية ووعورة طبيعتها التي يصعب معها التنقل في أرجائها وبالتالي ندرة وجود البشر معظم فصول السنة.
بقي القول إن كثيرا من أبناء القبائل التي كانت تسكن الربع الخالي أو تنتفع منه فتقصده لرعي الإبل كانوا يطلقون –وما زالوا- على الربع الخالي اسم الرملة.

يتبع
رحلة إلى الربع الخالي
(الجزء الثاني: ثمدا ثمود وبنية العمود)

 

هناك 5 تعليقات: