الأربعاء، 24 ديسمبر 2014

رحلة إلى الربع الخالي (ج۲)

ثمدا ثمود وبَنْيَة العمود


كتب وصوّر: محمد اليوسفي


من قديم الشعر الشعبي قيل في الحكمة:

يبيد الفتى ما بين يوم وليلة
يبيد وهو ما يحسب انه باد
الأيام ابادنّي وابادن هجرس
وابادن شداد ابن عاد وباد



وقيل ان سكان البادية (قديما) كانوا يقولون للمبالغة في قدم زمن الشيء المثل الشعبي (هذا من ثمدا ثمود وبَنْيَة العمود)، ومعنى المثل أن ذلك الشيء غير جديد بل قائم منذ زمن بعيد يرمز له المثل برمزين أو عهدين بائدين، الأول عهد ثمود، وهؤلاء هم قوم نبينا صالح عليه الصلاة والسلام من العرب البائدة كانت في الحجر شمالي المدينة المنورة فيما يعرف حاليا بمدائن صالح، والآخر (بنية العمود) وفيما يبدو أن المقصود بهذا عهد قوم عاد الذين أبادهم الخالق تعالى بريح مهلكة. فتشير بنية العمود، أي بناء العمود، إلى إرم ذات العماد. وقد قال بعض المفسرين إن إرم هذه مدينة. وفي بعض مصادر التراث العربي يروى أن ملك القوم، وهو شداد بن عاد، أمر ببنائها، وكانت تقع فيما يعرف قديما بالأحقاف جنوبي جزيرة العرب. والأحقاف في اللغة، ومفردها الحقف، الرمال عموما، أو ما اعوج واستطال منها.
بعد هذه المقدمة، أشير إلى أنني بصدد كتابة الجزء الثاني الذي سيتبعه أجزاء أخرى عن رحلة في الربع الخالي، وكنت طرحت في الجزء الأول الآراء التي قيلت حول سبب إطلاق اسم (الربع الخالي) على الجزء الجنوبي الشرقي من شبه الجزيرة العربية، فذكرت ما ورد في مصادر التراث العربي، وأشرت إلى ما يشيع بين الباحثين ويرجحونه أن منشأ الاسم جاء مما وجد في كتب الرحالين والمستشرقين المتأخرين الذين اطلقوا على هذا المكان اسم (The Empty Quarter)، والتسمية بذلك جاءت لأن هذه الصحراء المتصلة تغطي ربع مساحة شبه الجزيرة العربية إلى جانب أنها خالية من مظاهر الحياة البشرية بسبب قلة مواردها الطبيعية ووعورة طبيعتها التي يصعب معها التنقل في أرجائها وبالتالي ندرة وجود البشر معظم فصول السنة، وذكرت أيضا إن أبناء القبائل التي كانت تنتفع من هذا المكان فتقصده لرعي الإبل كانوا وما زالوا يطلقون على الربع الخالي اسم الرملة. كما تناولت قولا جنح إلى إعادة أصل التسمية إلى ما جاء في قصص ألف ليلة وليلة، حيث يأتي في سياق بعض قصص شهرزاد، وصف لأرض نائية موحشة خالية من النباتات والحياة تسمّى (الربع الخراب).

ألف ليلة وليلة عمل أدبي قائم على خيال تلفه الأساطير الممزوجة بخرافات وخوارق وعفاريت منهم أبو السعادات ذاك الذي (يعترف) في آخر قصص شهرزاد أنه قدم من عصور سحيقة حيث كان خازنا لكنوز شداد بن عاد صاحب مدينة إرم ذات (العماد) التي قيل عنها في المرويات إنها مطمورة تحت الرمال في الأحقاف بكنوزها وأعمدتها المبنية من المعادن النفيسة والمرصعة بالأحجار الكريمة وسط بيئة غنية بالأنهار والنخيل والأشجار حسبما دُوّن في بعض كتب ومصادر التراث العربي بصورة تقترب من الوصف الاسطوري، ولعل هذاالوصف؛ مع دوافع التجسس وكتابة التقارير الاستخباراتية عن المنطقة وطبيعتها، من الأسباب التي أثارت شهوة بعض الرحالة الغربيين ممن عبروا الربع الخالي في القرون الأخيرة فدفعتهم الرغبة في العثور على شيء من الآثار والكنوزها إلى المجازفة في التجوال بحثا وتنقيبا وسط كثبان كضخامة الجبال ووعرة المسالك وملغمة بجماعات من القبائل البدوية لاينظر الغربيون إلى أفرادها إلا والذئاب وجهان لعملة واحدة.
إذا تجاوز الباحث نظريات الجيولوجيين فيما يتعلق بكيفية تكون تلك الرمال في الربع الخالي، والخوض في طرح جدليات تاريخية حول طبيعة الحضارات التي سادت ثم بادت في الأحقاف أو وبار، فإن ثمة تحفظا لدى العلماء والمفسرين على تلك الأوصاف الأسطورية لإرم وعلى البيئة الطبيعية الغنية المحيطة بها بالصفة التي تذكرها بعض مصادرالتراث العربي.
أعود إلى مقدمة الموضوع في الجزء السابق حيث ذكرت أن الربع الخالي كلمة ما أن تتردد بين العامة حتى تنطبع صورة ذهنية تنطوي على المبالغة والتهويل في تقدير ارتباطها بالجن، وهذه الصورة ليست بناء ذهنيا جديدا في خيال أبناء الصحراء ممن ارتادوا الربع الخالي وسكنوه مؤخرا، بل هي صورة ممتدة الجذور فالعرب تزعم قديما أن أرض وبار (الربع الخالي) سكانها جن، ولا يدخلها إنسيّ، وإن دخلها ساهياً أو متعمداً حثوا في وجهه التراب، فإن أبى إلا الدخول خبلوه أو قتلوه أو ضل فيها ولا يعرف له خبر. وهذا الزعم ومثله مرويات اسطورية تضمها بعض المصادر التاريخية عن وبار أو الربع الخالي هي -على حد وصف العلماء- افتراءات مردودة عند العقلاء.

يتبع:
رحلة إلى الربع الخالي
(الجزء الثالث: سقوط الكنز)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق