الاثنين، 29 ديسمبر 2014

رحلة إلى الربع الخالي (ج۱۱)

السمك "المُقَوِي" يسبح في الرمال


كتب و صوّر: محمد اليوسفي

(لقد أكلت أنا العبد الفقير من هذا السمك، وكان لذيذا و"مقويا" بدرجة ملحوظة، وكانت الأسماك تسبح في الرمال كما لو كانت تسبح في البحر), هذا نص مقتبس من كتاب لرحالة تركي اسمه أوليا جلبي عُرف عنه الاهتمام بالفلكلور والغرائب، وهو صاحب كتاب من عدة مجلدات بعنوان سياحة نامه يتحدث فيه عن البلدان التي زارها والشعوب التي خالطها. وقد طاف شبه الجزيرة العربية في القرن الحادي عشر الهجري. وفي وصفه لتصرفات مرافقيه من أبناء المنطقة ذكر أنهم يقدمون لكبيرهم سمكا رغم أنهم في عرض الصحراء، مستغربا من ذلك وهو لا يرى أنهارا أو بحيرات!
أيعقل.. سمك يسبح في الرمال؟!
لعلك تشك في امتلاك (ابن جلبي) الحد الأدنى من فضول الرحالة ووضوح الباحث، وإلا لكشف عن حقيقة ما وصفه. وستعرف عزيزي القارئ المقصود بسمك الرمال، وما يقال عن تأثيرات أكله وكيف كان أجدادنا يتخذونه مقويا يشحن الرجال بـ"الطاقة المرغوبة", وكيف يُروج حاليا للنساء خلطات شعبية يدخل في تركيبها (هذا السمك!) بزعم منفعته لعلاج العقم والضعف الجنسي لدى أزواجهن.
أعيد التذكير بأنني بصدد كتابة جزء ضمن سلسلة مقالات عن رحلة إلى الربع الخالي. كتبت في الجزء السابق عن أحد رفاق الرحلة (الشقردي) الخدوم صالح الذي يتمتع بصفات ومزايا تتطلبها طبيعة الرحلات البرية الطويلة. اليوم أتحدث عن مساعده (أيمن), هو أصغر الرفاق سنا, وأقلهم تحدثا ومشاركة في النقاشات, قصير القامة نحيل الجسم خفيف الوزن, لكنه ذو همة عالية, لا يوقفه طوال أيام الرحلة عن الحركة والنشاط والعمل الدؤوب إلا النوم.
في مرحلتي العمرية, أقف خلف أجيال كانت حتى وقت قريب, تنظر إلى المراهقين والشباب أصحاب الأسماء؛ التي لم تعرف سابقا في المجتمع النجدي مثل "أيمن وأمجد وفراس ولؤي...." بنظرة قاصرة تنطوي على صورة ذهنية مؤطرة بأحكام مسبقة عناوينها الانفصال عن التقاليد والموروث أو الليونة والنعومة, وربما يتصور قارئ أن الفاصل بين تلك الأسماء والخشونة وحسن التصرف في المواقف الصعبة مسافة تصل إلى أبعد من المسافة بين شخص يبيت في غرفة بفندق برج الفيصلية وبين آخر ينام في عراء كثبان عروق الخرخير. لم أنظر إلى أيمن بهذه "النظرة النجدية" لكنه فاجأني في الرحلة بتفوقه على أقرانه ومن هم أكبر منه سنا بسرعة البديهة وحسن التصرف في معرفة تفاصيل متعلقة بالحياة البرية وثقافة الصحراء.
في منتصف الرحلة أثناء التوقف في محافظة الخرخير للتزود بالوقود وما هو متاح من الاحتياجات التموينية, جاءني أيمن, وكنت أستقل سيارة بعيدة عنه, يحمل شيئا مضموما في يده بعناية وقال مداعبا هذه هدية. هو خصني بالإهداء لسبب أنني مهتم بالتقاط صور فوتوغرافية لأي كائن فطري يدب على الصحراء لا لشيء آخر!
هدية أيمن نوع صغير من الزواحف التقطت له صورة وأخليت سبيله ليندس وسط الرمال, وهذا النوع أطول من أصبع الرجل البالغ وأسمك منها, وناعم الملمس لكن فيه قوة عجيبة مقارنة بحجمة, وإذا أمسكت به يخيل إليك أنه عبارة عن قطعة من عضلة قوية متماسكة بشدة. وصدّق أو لا تصدّق ما زال هناك من يأكله على خلفية.. هذا ما وجدنا عليه أباءنا وأجدادنا الذين كانوا يعتقدون أنه مقوٍ للباءة بل ولعلاج العقم وضعف الرجال. ولعل هذا هو سمك الرمال الذي قصده (ابن جلبي).
يسمّى هذا الزاحف في المصادر المتخصصة السقنقور, أو الصقنقور عند العوام, كما يعرف؛ لدى سكان مناطق أخرى في المملكة ذات كثبان رملية باسم "الدّسيسة, والدّميسة" لأن له القدرة على أن يندس وسط الرمال, بل يخترقها سريعا ويغوص في جوفها كما لو أنه يسبح, ويعيش وسط هذه البيئة ولهذا قيل عنه "سمكة الرمال". ويتغذى بالحشرات وبعض أجزاء الأعشاب كما يتناول حبيبات الرمل ليستفيد من العناصر العالقة بها.
وفيما يتعلق باتخاذه علاجا ومقويا, فقديما كان هناك من يأكله بعد ذبحه وتنظيفه لحما "طازجا" مطبوخا أو مشويا! أو بتجفيفه مع الملح ثم سحقه, ويباع "مسحوق السقنقور" في محلات العطارة, كما يخلط المسحوق مع العسل ويباع كعجينة. غير ذلك, يستخرج العطارون من شحم هذه السحلية دهناً يستعمل كمرهم, كل ذلك من أجل "الطاقة المرغوبة" واستعمالات أخرى. ولو جربت عزيزي القارئ ولقّمت قوقل كلمتي التداوي بالسقنقور فسوف يحيلك إلى آلاف النتائج منها جزء كبير عبارة عن مواقع ومنتديات نسائية تتواصى وتتطبب للأزواج بالخلطات والمنتجات السقنقورية! وبعضها يوحي لك أن الحديث ليس عن سحلية تافهة بل عن "قوة سنافية" عجيبة!. وقبل التعجل والسخرية والذهاب إلى مصطلحات (خرافات, خزعبلات, جهل, دجل..) فسآتي بما يبعث على الحيرة فأقول: بين يدي مقال يشير إلى فوائد علاجية متعددة لتناول السقنقور والخلطات التي يدخل في تركيبها, نشر في صحيفة محلية كبرى قبل أعوام للأستاذ الدكتور جابر بن سالم القحطاني أستاذ العقاقير والوجه الطبي الإعلامي المعروف. أقتبس أجزاء منه, فقال القحطاني: "الأفضل للتداوي الذكر "يقصد جنس ذكر السقنقور" وذلك فيما يخص تنشيط الباءة، بل الذكر هو المخصوص بذلك وليس الأنثى.. وخصيته أهم ما فيه.. والجزء المستخدم من السقنقور الجزء الذي يلي الرأس وذنبه وشحمه, والوقت الذي ينبغي أن يُصاد فيه هو فصل الربيع فإنه يهيج فيه فيكون أبلغ نفعا.. وعادة الجرعة من مسحوق السقنقور كمنشط للباءة يجب أن لا تتعدى ثلاثة جرامات فهذه الجرعة تقوي آلات ماء الرجل وتزيد في شهوة الباءة وتقوي البدن وتهيج الجماع". انتهى كلامه.
خطر ببالي الآن مشهد كوميدي للممثل حسين عبد الرضا في مسلسلة الأقدار وهو يقدم لسعد الفرج علاجا لعقم الأخير عبارة عن "كبد نمل وبيض ثعابين مع منقار هدد يتيم حول"!.
إذا أصابتك الحيرة بعد الاقتباس الأخير, فاغلق الصفحة وانتظر – إن رغبت – الجزء التالي (ج
۱۲) من رحلة إلى الربع الخالي بعنوان (غاز سام ينفثه ثعبان دفّان)!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق